وتدبر. ولهذا لم يؤاخذهم الله تعالى الذي أخبرهم بأن ما فعلوه بالمشركين لا يعد إثما كما يستفاد من الآية، فلم يبق لأحد إلا أن يقول أنه بالنسبة لذلك الزمن ولعددهم يسمى إثخانا ابدا، وقول الله هو الفعل الحق على أن الأمر بالقتل كان مختصا بالأصحاب لإجماع المسلمين على أن النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه لم يؤمر بمباشرة الجهاد أي القتل إلى أن نزلت آية النساء، وهي قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الآية ٨٤ الآتية، ولكنه ساوى نفسه مع أصحابه، ولم يفضلها عليهم ليقوى يقينهم وتزداد شكيمتهم قوة، فإذا كان ما وقع فيه شبهة ذنب فهو من الأصحاب لا منه صلّى الله عليه وسلم، مع أن أخذ الفداء لم يكن حراما، والآية لا تدل على التحريم، إذ لو كان حراما لمنعهم الله من أخذه ولردوه لأربابه. وأما بكاء النبي صلّى الله عليه وسلم فكان إشفاقا من نزول العذاب على أصحابه لاشتغالهم بالأسر وترك القتل، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: عرض علي عذابهم، إلخ الحديث المتقدم، ولو كان مرادا لقال عرض علي العذاب، ولكان سياق خطاب الآية منصرفا إليه وحده، ولهذا لما تبين لهم أن اجتهادهم ليس بمحله وأن ما فعلوه لا يعد إثخانا عند الله ندموا على ما وقع منهم وخافوا من تأنيب الله إياهم، فصاروا يبكون، وإنما لم يرد الله أخذ الفداء لأن العرب إذا رأوا جواز الفداء عند محمد وأصحابه يسهل عليهم الإقدام على حريه ثانيا وثالثا إذ لا قيمة للمال عندهم في مثل هذه المواطن، وحتى الآن أمر العرب على هذا (ومنه ان من أهالي دير الزور السيد جمعة الفارس جاء إليه جماعة من عشيرته فطلبوا منه نصف مجيدي، فقال لماذا؟ قالوا قتلنا رجلا ونريد أن نؤديه، فأصاب كل رجل نصف مجيدي، فأعطاهم وقال لهم إذا كان من تقتلونه يصيب الرجل منا نصف مجيدي من ديته وتخلصون من دمه فاقتلوا كل يوم رجلا وتعالوا خذوا مني ما يصيني عن دمه.) والله يريد قمع دابرهم وأضعاف الخوف في قلوبهم، لأنهم إذا علموا أن الفداء لا يقبل وليس هناك إلا الذبح خافوا وأحجموا عن القتل والقتال، وذلوا فينقادوا للإسلام قسرا، وهذا هو المراد من قتالهم، وإلا لهان عليهم الفداء وحرص بعضهم بعضا على القتل كما وقع من هذا الديري بعد ألف وثلاثمائة وست وخمسين سنة أو أكثر على حادثة بدر هذه، والله أعلم بما يصلح لعباده.