صاروا يبكون عليه «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ»(٥٤) المجازين أهل الحيل، وبهذا الأخذ والرد بين اليهود إذ يقول لهم أنا لست بعيسى وهم يلكمونه ويقولون له أنت هو، تخلص بقية حوارييه من القبض عليهم، إذ كانت نيتهم اغتيال عيسى وحوارييه لأمر أراده الله وليتم مراده ببث دعوته من بعده من قبلهم. واعلم أن إضافة المكر إلى الله بمعناه لا يجوز، لذلك أول بالجراء، وكذلك الخداع والاستهزاء لأنها صفات مذمومة في الخلق فلا يليق أن يوصف بها الخالق المنزه عن سمات خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وخلاصة القصة أن الله تعالى لما أرسل عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليدعوهم إليه ويتركوا ما أحدثوا من البدع ويرجعوا إلى حكم التوراة وما وعدهم به من التخفيف لبعض أحكامها وأظهر على يده المعجزات المذكورات وغيرها كقلب الماء خمرا والمشي على الماء مما ذكر في الإنجيل ومما لم يذكر، لأنه لم يشتمل على سيرته جميعها وكان في بداية أمره مر بجماعة يصطادون سمكا فقال لهم اتبعوني لنصطاد الناس فقال له أحدهم شمعون ائتنا بآية، فدعا الله فاجتمع في الشبكة سمك كثير حتى كادت تتمزق منه، فاستغاثوا بأصحاب السفينة الأخرى وملأوها، فآمنوا به واتبعوا وصار يدعو الناس وإياهم إلى الله، فاشتد ذلك على اليهود، لأنهم عرفوه أنه المسيح البشر به في التوراة، وأنه الذي يبطل دينهم ويحوله إلى أحسن، فخافوا ذهاب الرياسة منهم، فقر رأيهم على قتله، وخدعوا ملكهم بأن عيسى يريد أخذ الملك منه، وأنه على خلاف ما جاء في التوراة، وأنه ظهرت منه أقوال توجب الكفر وحاشاه من ذلك، فوافقهم على ما يريدون، فدبروا المكيدة بينهم على أن يتسلطوا عليه بواسطة أحد أتباعه، فأغروا المنافق يهوذا الأسخريوطي بثلاثين درهما على
أن يدلهم عليه ليلا بحيث لا يكون إلا هو وأصحابه الأحد عشر، وقد اطلعه الله على ذلك فاجتمع بأصحابه، وكان الخبيث معهم يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فوعظهم عيسى عليه السلام وأرشدهم وداعبهم وقال يا أصفيائي ويا خاصتي إن اليهود أجمعت على قتلي، وإن الله سيرفعني إلى السماء ويلقي شبهي على أحدكم الذي سيكفر بي ويبيعني بدراهم بسيرة، فدهشوا قوله ولم يعلم الأحد عشر من هذا الكافر الذي يجرز على ذلك، ولم يفهم الخبيث