أراد يُسْكِرُ كثيرُه؛ كما يُقال: الخُبز يُشبِعُ، والماء يَرْوي، وإنَّما يَحصلُ الرِّيُّ والشِّبَعُ بالكثير منه لا بالقليل. كذلك المُسْكِرُ إنَّما يَحصلُ السُّكْرُ بالكثير منه، فلمَّا قالوا له: هو مُسْكِرٌ، قال:(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)؛ فبيَّن أنَّه أراد بالمُسْكِر كما يُرادُ بالمُشْبِع والمُرْوِي ونحوهما، ولم يُرِد آخرَ قَدَحٍ.
وفي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن عُمَرَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال:(كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)، وفي لفظٍ:(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)، ومن تأوَّلَهُ على القَدَحِ الأخير لا يقول: إِنَّه خَمْرٌ. والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جعل كُلَّ مُسْكِرٍ حَراماً.
وفي السُّنن عن النُّعمان بن بشيرٍ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنَ الحِنْطَةِ خَمْراً، وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْراً، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْراً، وَمِنَ العَسَلِ خَمْراً).
وفي الصَّحيح أنَّ عُمَرَ بن الخطَّاب قال على منبر النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ؛ وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ).
والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُبيِّنُ أنَّ الخَمْرَ التي حَرَّمها اسمٌ لكُلِّ مُسْكِرٍ؛ سواءٌ كان من العَسَل، أو التَّمْر، أو الحِنْطَة، أو الشَّعير، أو لَبَنِ الخَيْل، أو غير ذلك.
وفي السُّنن عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الفَرَقُ مِنْهُ فَمِلءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ)، قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ.
وقد روى أهلُ السُّنن عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)؛ من حديث جابرٍ، وابن عُمرَ، وعَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، وغيره، وصحَّحهُ الدَّارقُطْنيُّ وغيرُهُ.
وهذا الذي عليه جماهير أئمَّة المسلمين؛ من الصَّحابة والتَّابعين، وأئمَّة الأمصار والآثار.