في سُورتَين مَدَنِيَّتين: البقرة والمائدة، والمائدةُ مِنْ آخر القُرآن نُزُولاً كما رُوِيَ:(المَائِدَةُ آخِرُ القُرْآنِ نُزُولًا؛ فَأَحِلُّوا حَلَالَها، وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا)، وقد ذَكَرَ الله فيها من التَّحريم ما لم يَذْكُره في غيرها، وحَرَّم النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أشياء؛ مثل: أَكْل كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكُلِّ ذي مَخْلبٍ من الطَّير. وإذا كان التَّحريم زاد بعد ذلك على ما في السُّورة المَكِّيَّة التي استندت إليها الرُّخصة المُطْلَقة، فيُمكِن أن يكون تَحريم الانتفاع بالعَصَبِ والإِهابِ قبل الدِّباغِ ثَبَتَ بالنُّصوص المُتأخِّرة، وأمَّا بعد الدِّباغ فلم يُحرَّم ذلك قطُّ، بل بيَّن أنَّ دِباغَه طَهورُه وذَكاتُه، وهذا يُبيِّنُ أنَّه لا يُباح بدون الدِّباغ.
وعلى هذا القول؛ فللنَّاس فيما يُطهِّرُه الدِّباغ أقوالٌ:
قيل: إنَّه يُطهّرُ كُلَّ شيءٍ حتَّى الحمير؛ كما هو قول أبي يوسُف وداود.
وقيل: يُطهِّرُ كُلَّ شيءٍ سِوَى الحمير؛ كما هو قول أبي حنيفة.
وقيل: يُطهِّرُ كُلَّ شيءٍ إلَّا الكَلْب والحمير؛ كما هو قول الشَّافعيِّ، وهو أحد القولين في مذهب أحمد -على القول بتطهير الدِّباغ-، والقول الآخر في مذهبه -وهو قول طوائف من فُقهاء الحديث-: أنَّه إنَّما يُطَهِّرُ ما يُباح بالذَّكاة؛ فلا يُطَهِّرُ جُلُود السِّباع.
ومَأْخَذ التَّردُّد: أنَّ الدِّباغ هل هو كالحياة، فيُطَهِّرُ ما كان طاهراً في الحياة، أو هو كالذَّكاة، فيُطَهِّرُ ما طَهُر بالذَّكاة؟ والثَّاني أرجح.
ودليل ذلك: نَهْيُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عن جُلود السِّباع؛ كما رُوِيَ عن أُسامة بن عُمَيرٍ [الهُذَلِيِّ](أنَّ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ) رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. زاد التِّرمذيُّ:(أَنْ تُفْرَشَ).
وعن خالد بن مَعْدان قال: (وَفَدَ المِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللهِ؛ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ،