الثَّالث: لو سُلِّمَ تأخُّرُه لم يكنْ فيه دليلٌ؛ لأنَّه عامٌّ، وأخبار الدِّباغ خاصَّة، و (الخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، سواءٌ تقدَّم أو تأخَّر)، كما هو معروف عند الجماهير من أهل أصول الفقه.
وأمَّا الجواب عن قياسهم على اللَّحم فمن وجهين:
أحدُهُما: أنَّه قياسٌ في مقابلة نصوص، فلا يُلْتَفت إليه.
والثَّاني: أنَّ الدِّباغ في اللَّحم لا يتأتَّى، وليس فيه مصلحةٌ له، بل يمْحَقُه، بخلاف الجِلْدِ؛ فإنَّه يُنظِّفُه ويُطَيِّبُه ويُصَلِّبُه.
وبهذين الجوابين يُجابُ عن قولهم: العِلَّةُ في التَّنْجيسِ الموت، وهو قائم.
واحتجَّ أصحاب المذهب الثاني بما رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ والحاكِم وغيرهم بأسانيد صحيحة، عن أبي المُلَيْح عامِر بن أُسامة عن أبيه رضي الله عنه:(أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ)، وفي روايةٍ للتِّرمذيِّ:(نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ)؛ قالوا: فلو كانت تَطْهُرُ بالدِّباغِ لم يَنْهَ عن افتراشِها مُطْلَقاً.
وبحديث سَلَمَة بن المُحَبَّق السَّابق:(دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا)؛ قالوا: وذَكاةُ ما لا يُؤكَل لا تُطَهِّرُه.
قالوا: ولأنَّه حيوانٌ لا يُؤكَل فلم يَطْهُر جِلْدُه بالدَّبْغ؛ كالكَلْب.
وأجاب أصحابنا بالتَّمَسُّك بعموم (أَيَّمَا إِهَابٍ) و (إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ)، و (أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ)؛ فإنَّها عامَّةٌ في كُلِّ جِلْدٍ.
قالوا: وأمَّا الجواب عن حديث النَّهي عن جُلود السِّباع؛ فمحمولٌ على ما قبل الدِّباغ.
فإن قِيلَ: لا معنى لتخصيص السِّباع حينئذٍ، بل كُلُّ الجُلود في ذلك سواء.
فالجواب: أنَّها خُصَّتْ بالذِّكْر لأنَّها كانت تُستعمَلُ قبل الدِّباغ غالباً أو