ومن أدلَّة الصورة الثالثة: ما أخرجه الطَّبَرانيُّ في (الأوسط) بإسنادٍ حَسَّنه الحافظ ابن حجر، من حديث عبد الله بن بُرَيْدَة عن أبيه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (مَنْ حَبَسَ العِنَبَ أَيَّامَ القِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتِّخِذُهُ خَمْراً، فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ). ولا شكَّ أنَّ العِنَب في الغالب يُنتَفَع به في الأمور الجائزة، ولكنَّه لمَّا كان القصد بيعُه إلى من يستعملُه في أمرٍ مُحرَّمٍ، كان بيعُه مُحرَّماً؛ لأنَّ وسيلة الحَرَام حَرامٌ، وأمَّا [مع] عَدَم القصد فلا تحريم. ومن هذا الزَّعفران؛ فمن باعه إلى من يستعملُه في أمرٍ جائز، أو مع عدم القصد؛ فبيعه حلالٌ، ومن باعه إلى من يستعملُه في أمرٍ غير جائزٍ؛ نحو أنْ يبيعه إلى من يعلم أنَّه يأْكُل منه مقداراً يحصُل به التَّفْتير أو الإِضْرار بالبَدَن، قاصداً للبيع إلى من كان كذلك؛ فبيعُه غير جائز.
وإذا تقرَّر هذا التفصيل ارتفع ما يَرِدُ من الإشكالات على حديث ابن عبَّاس عند الحاكم والبيهقيِّ بإسنادٍ صحيحٍ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال:(إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّم عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ)؛ فإنَّه قال بعض أهل العِلْم: إنَّه يلزم من الأخذ بظاهر هذا الحديث تحريمُ بيع الحُمُر الأهليَّة وغيرها ممَّا يصلُحُ لحلالٍ وحَرامٍ.
ويُجابُ: بأنَّ الحُمُرَ الأهليَّة إذا باعها البائع إلى من يأكُلُها، كانَ البيعُ مُحرَّماً مع القصد؛ لما سَلَفَ من أنَّ وسيلةَ الحَرام حَرامٌ، وإنْ باعَها إلى من لا يأكُلُها، أو مع عدم القصد، فلا وجه للتَّحريم، وهكذا كلُّ ما كان من هذا القبيل.
وقال ابن القَيِّم: إنَّه يُرادُ بحديث ابن عبَّاسٍ المذكور أمران:
أحدهما: ما هو حرامُ العَيْن والانتفاع جُملةً؛ كالخَمْر، والمَيْتَة، والدَّم، والخِنزير، وآلات الشِّرْك؛ فهذه ثَمَنُها حَرامٌ كيفما اتَّفَقَت.