هنا ليست للشك، خلاف من ذهب من شيوخنا إلى ذلك؛ إذ قد روى هذا الحديث جابر، وأبو هريرة، وابن عمرو، وأبو سعيد، وسعد بن أبى وقاص، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبى عبيد، عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا اللفظ، وبعيد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك ووقوعه من جميعهم وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه كذا قاله النبى - عليه السلام - فإما أن يكون أعلم - عليه السلام - بهذه الجملة هكذا أو تكون [أو](١) للتقسيم، ويكون أهل المدينة صنفين؛ شهيداً لبعضهم، وشفيعاً لآخرين، إما شفيعاً للعاصين وشهيداً للمطيعين، أو شهيداً لمن مات فى حياته وشفيعاً لمن مات بعده، أو غير ذلك مما الله [أعلم](٢) به، وهذه خاصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين فى القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال - عليه السلام - فى شهداء أحد:" أنا شهيد على هؤلاء " فيكون لتخصيصهم بهذا كله زيادة منزلة وغبطة وحظوة.
وقد تكون " أو " هنا هى التى بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شهيداً وشفيعاً، وقد روى:" إلا كنت له شهيداً أو له شفيعاً "، وإذا جعلناها للشك - كما ذهب إليه المشايخ - فإن كانت اللفظة الصحيحة الشهادة اندفع الاعتراض؛ إذ هى زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة الشفاعة فاختصاص أهل المدينة بهذا، مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع أمته، أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التى هى لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته فى القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو ما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة والمبرة؛ من إيوائهم فى ظل عرش الرحمن، أو كونهم فى روح وعلى منابرٍ، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص المبرات الواردة لبعض دون بعض فى الآخرة - والله أعلم.
وقوله:" لا يخرج أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ": ذهب بعضهم أن هذا خصوص مدة حياته - عليه السلام - وقال آخرون: هو عموم أبداً، وهذا أظهر؛ لقوله فى الحديث الآخر أول الكلام:" يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده، لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله فيها من هو خير منه " الحديث، وأن كلامه - عليه السلام - ممن يخرج عنها ممن كان مستوطناً بها.
(١) و (٢) سقطتا من الأصل، واستدركتا فى الهامش بسهم.