للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عصر القاضى عياض ونسبه]

يُعدُّ القاضى عياض أحد أئمة الرواية والدراية الذين نبتوا بأرض المغرب، وذاع صيتهم بالحق فى أرجاء المعمورة، وثبَّت الله بعلمهم وعملهم أمر الإسلام فى أوطانهم.

لقد شهد عصره مولد أشر فتنةٍ حلت بأرض الإسلام بالمغرب، على يد قرينه ابن تومرت (١)، كلاهما ولد فى عصر واحد، وفى وطن واحد، ونشأ نشأة واحدة، هى نشأة الطلب، لكن الثانى كان له غاية غير غاية صاحبه، هى نوال الرياسة (٢)، فدخل فى الدماء وشغف بالمؤامرات، حتى سهل لأعداء الأمة اصطياده، وتسخير مواهبه لتحقيق مأربه ومأرب عدو دينه وأمته، فتجهز لذلك بالحيل، حتى إنه طلب من أحد الفقهاء الذين خدعوا به - وهو عبد الله الونشريسى - أن يخفى علمه وفصاحته، ويتظاهر بالجهل واللكن مُدَّة، ليجعل من إظهار نفسه أمام الأغرار معجزة.

قال الذهبى: " فلما كان عام تسعة وخمسمائة خرج يوماً فقال: تعلمون أن البشير - يريد الوَنشريسى - رجُلٌ أمى، ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مُبشِّراً لكم، مطلعاً على أسراركم، وهو آية لكم، فقد حفظ القرآن، وتعلم الركوب، وقال: اقرأ، فقرأ الختمة فى أربعة أيَّام، وركب حصاناً وساقه، فبُهتوا، وعدوها آية لغباوتهم، فقام خطيباً وتلا: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (٣) وتلا: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (٤) - فهذا البشير مطلع على الأنفس، مُلهم، ونبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن فى هذه الأمة محدَّثين، وإن عمر منهم " (٥)، وقد صحبنا أقوامٌ أطلعه الله على سِرِّهم، ولابد من النظر فى أمرهم، وتيمُّم العدل فيهم، ثم نودى فى جبال المُصامدَة: من كان مطيعاً للإمام فليأت، فأقبلوا يُهرَعون، فكانوا يُعرضون على البشير، فيُخرجُ قوماً على يمينه، ويَعُدُّهم من أهل الجنة، وقوماً على يساره فيقول: هؤلاء شاكُّون فى الأمر، وكان يُؤتى بالرجُل منهم فيقولُ: هذا تائبٌ رُدوهُ على


(١) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت البربرى المصمودى الهرغى، نسبة إلى قبيلة كبيرة من المصامدة فى جبل السوس فى أقصى المغرب، الخارج بالمغرب، المدَّعى أنه علوى حسنى، وأنه الإمام المعصوم المهدى، وقد لقبته أمه تومرت، وسبب ذلك- فيما ذكر صاحب المقتبس من الأنساب- أن أمه فرحت به وسرت، فقالت باللسان الغربى: " آتومرت اينويسك أبيوى "، ومعناه: يا فرحتى بك يا بنى، فكانت تكثر من ذلك، وكانت أيضاً إذا سئلت عن ابنها وهو صغير تقول باللسان الغربى: " بك تومرت " معناه: صار فرحاً مسروراً، فغلب عليه لذلك اسم تومرت. المقتبس من الأنساب: ٣١.
(٢) سير ١٩/ ٥٤١.
(٣) الأنفال: ٣٧.
(٤) آل عمران: ١١٠.
(٥) البخارى فى الصحيح، كتاب فضائل أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب مناقب عمر ٧/ ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>