وقوله:" إن الله حرم بيع الخمر والميسر والخنزير والأصنام ". فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال:" لا، هو حرام " الحديث. ثم قال عند ذلك:" قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها أجْمَلُوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه "، قال الإمام: قد تقدم فى العقد الذى افتتحنا به البيوع الكلام على هذا الحديث، وأصلنا ما يعرف منه ما يجوز بيعه مما لا يجوز، وكشفنا عن علة ما يجوز بيعه مما لا يجوز، فلا فائدة من إعادته. وقد قال الطبرى: فى المحرمات ما يجوز بيعه، فإن اعترض به على ما يتضمنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذا الحديث من إشارته إلى أنَّ ما حرم بيعه، قيل: إنما هذا لنجاسته. واليهود ترى الشحم نجساً، والذى أحللنا بيعه من المحرمات ليس بنجس، والذى أراد بقوله:" لا، فهو حرام " تحريم البيع لا تحريم ما ذكره من منفعة، وإنما ظنوا أن هذه المنافع تكون سبباً للرخصة لهم فى البيع، فذكروا ذلك للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعله أن يبيح البيع لذلك، فلم يفعل. وقد تقدم فى العقد الذى ذكرناه نحن فى افتتاح البيوع الوجه الذى من أجله لم يعذرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرخص لهم فى البيع، قال: فإن قيل: فإن فى بعض الأحاديث كما قيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شحوم الميتة: إنها تدهن بها السفن، فقال:" لا تنتفعوا من الميتة بشىء ". قيل: هذا على الكراهية، وتحرزاً من النجاسة أن تمسه، بدليل ما وقع فى حديث آخر أنه أباح الانتفاع بالسمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة (١) وإن طعنوا فى بعض رواة هذا الحديث. وكذلك حديثهم الذى عارضوا به - أيضاً - يطعن فى بعض رواته هذا الذى علق بحافظتى من معنى كلام الطبرى.
قال القاضى: فى هذا الحديث إبطال الحيل، والحجة على من قال بها فى هذا إسقاط حدود الشرع من الكوفيين. وفيه الحجة لمالك فى مراعاة الذرائع، وسد بابها. وقد اختلف الناس فى الانتفاع بالنجاسات، وقد ذكرناه. واختلفوا فى الانتفاع بشحوم الميتة.
(١) البيهقى فى السنن الكبرى، ك الضحايا، ب من أباح الاستصباح به ٩/ ٣٥٤.