وقوله: " ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ": فيه دليل أن الجهاد بعد الفتح لم يجب بكل حال، ولا وقعت البيعة عليه حتماً كما كان قبل الفتح، لكن من شاء جاهد ومن شاء ترك بنية الجهاد متى أمكنه ونشط له، وهو معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولكن جهاد ونية " - والله أعلم - إلا أن ينزل بقوم عدو، أو تدعو إلى خروجه للجهاد ضرورة فيتعين عليه.
قال الإمام: كانت الهجرة فرضاً أول الإسلام ليسلموا بها من ذل الكفار لغلبتهم على الدار، وليكونوا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأعوان والأنصار، يشدون أزره، ويدفعون عنه، فلما فتحت مكة سقط فرض الهجرة لزوال الذل عمن سكنها من المسلمين، ولاستغناء النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه عمن يحامى عنه. وصارت ندباً لما فى القرب من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهدته والصلاة معه، وتلقى الوحى منه من الفضيلة على الغيبة عن ذلك.
وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا استنفرتم فانفروا " فإنه إذا استنفر الناس للجهاد وجب عليهم إذا كان قعودهم عنه يؤدى إلى استباحة الحريم والأموال، وإن كان طلباً للاستظهار على العدو وقد قام بالجهاد من يكفى كان ندباً فى حق الباقين.
قال القاضى: وقوله: " وإذا استنفرتم فانفروا " هو على وجهين؛ فأما الاستنفار لعدوٍ صدم أرض قوم، فنفيرهم له واجب فرض متعين عليهم، وكذلك لكل عدو غالب ظاهر حتى يقع، وأما لغير هذين الوجهين فيتأكد النفير لطاعة الإمام لذلك، ولا يجب وجوب الأول.