إن كان ينطق وهو فعله على طريق التنكيت لقومه، وهذا كله ليس بكذب وخارج عن حد الكذب فى حق المخبر، داخل فى باب المعاريض التى جعلها الشرع مندوحة عن الكذب عند الضرائر، ولكن سماها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبات؛ لأنه أتى بها لمن خاطبه على ظاهرها ومعتقده خلاف ذلك، فلما كان فى حقى المخبر والخبر ظاهرها بخلاف باطنها جاءت فى صورة الكذب، وإن لم يكن كذباً فى الباطن. وهذه على صورة المعاريض. ولما جاءت بهذه الصورة سماها النبى محمد وإبراهيم - عليهما السلام - كذبات، أشفق إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المؤاخذة بها يوم القيامة فى الحديث المعروف فى الشفاعة.
قال أهل العلم: وهذا أصل فى جواز المعاريض، قالوا: والمعاريض شىء يتخلص به الرجل من المكروه إلى الجائز، ومن الحرام إلى الحلال، ومن دفع ما يضره. وإنما يكره له التحيل فى حق فيبطله، أو باطل فيموه به.
وفى هذا الحديث - فى قصة سارة - إجابة دعوة إبراهيم، وعلامات نبوته، ومنع الكافر ما أراده.
وقوله فى هاجر:" فتلك أمكم يا بنى ماء السماء ": قال الخطابى: إن المراد بهذا العرب؛ لانتجاعهم المطر وماء السماء للعير؛ لأن أكثرهم أصحاب مواشى، وصلاحهم بالخصب والرعى، وسيرتهم فى ذلك معلومة.
قال القاضى: والأظهر عندى أن المراد بذلك الأنصار، ونسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، ويكون ذلك على قول من جعل العرب من ولد إسماعيل، وهذا مثل قوله فى الحديث الآخر لا لمسلم:" ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً "(١)، وكله حجة لن يجعل اليمن والعرب كليهما من ذرية إسماعيل. وقد ترجم البخارى على هذا الحديث " باب نسبة
(١) البخارى، ك الجهاد، ب التحريض على الرمى (٢٨٩٩) من حديث سلمة بن الأكوع، ابن ماجه، ك الجهاد، ب الرمى فى سبيل الله (٢٨١٥) وفى الزوائد: إسناده صحيح، أحمد ١/ ٣٦٤ من حديث ابن عباس.