للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. ح وَحَدَّثَنِى هَارُونُ بْنُ

ــ

إلى أن العَربَ خوطِبت وأُمِرت بغير لغتها، أو هى مُبقَاةٌ على مقتضاها فى أصل اللغة، فالصلاة الدعاء، والصيامُ الإمْسَاكُ، والحج القصدُ، وهكذا فى سائرها وهو المرادُ بها والمفهوم منها، وغير ذلك مما أضيف إليها من أقوالٍ وأفعالٍ غيرُ داخِلٍ تحت الاسم، وهو مذهب القاضى أبو بكر، أو هى واقعةٌ على أصول مُسَمَّياتِها، ثم أطلق على ما انضاف إليها بحكم الاشتمال أو الاستعارة لمشابهة معناها، وهو مذهب الأشياخ والمحققين من متكلمى أهل السنة وغيرهم من الفقهاء (١)، وقد أطال المصنفون فى الأصول الكلام فى هذا الباب ومدّوا أطنابه، ومخالفة الجماهير من الموافقين والمخالفين جُرأةٌ تامةٌ وجسارةٌ، وقول المرء لقول قيلَ يعتقد (٢) الصواب فى خلافه غيرُ بيِّنٍ وخسَارةٌ، فالحق أحق أن يُتبع لا سيما بخلافٍ ليس فى قاعدة دين ومقالة تلوح بالحق اليقين، ولا تخرج عن مراد مشايخنا المحققين، وذلك أنه متى أعطيت هذه الألفاظ من البحث حقها وُجِدَتْ عند المخاطبين بها لأول ورودها من أهل الشريعة معروفة المعنى على ما جاءت به من أفعال مخصوصةٍ وعبارات مُقرَّرةٍ إِلا ما غيَّر الشرع فيها من بدع الجاهلية أو نسخ من شرائع من تقدم من الكتابيَّة، لكن لا يبعد أن أصل استعمال العرب لها فى جاهليتهم قبل ورود الشريعة كان على ما أشار إليه الأشياخ، إما من إيقاعها على المعنى الحقيقى فى اللغة دون اعتبار المزيد فيها، على مذهب القاضى أبى بكرٍ، أو على الجميع بحكم تشابه المعنى والاستعارة على ما ذهب إليه غيره، ثم استُمِرَّ استعمالهُم لهذه الألفاظ عرفاً على جميع العبادة فصارت كاللغة الصحيحة والتسمية الموضوعة، فجاءهم الشرع واستعمالهم لها مفهوم عند جميعهم، فقد حققنا قطعاً بمُطالعة السِّير ومدارسة الأثر واستقراء كلام العرب وأشعارها: أن الصلاة كانت عندهم معلومةً على هيئتها عندنا من أفعالٍ وأقوالٍ ودعاءٍ وخضوعٍ وسجود وركوع، وقد تنصَّرَ كثير منهم وتهوَّد وتمجَّس، وتقربوا بالصلوات والعبادات، وجاوروا أهل الديانات، وداخلوا أهل الملل ووفَد أشرافهُم على ملوكهم، وألفت قريش رحلة الشتاء والصيف إلى بلادهم، وراقبوا ربَّانيِّهِم وأحبارهم، وشاهدوا رهبانيتَهم وشرائعهم، وثابَرَ كثيرٌ منهم على بقايا عندهم من دين إبراهيم، وعرفوا السجود والركوع والصوم والحج والعمرة والاعتكاف، وحجوا كل عام واعتمروا واعتكفوا وحضوا على الصدقة، وصاموا عاشوراء، وفى الحديث: " كان عاشوراء يوماً تصومُه الجاهلية" (٣). وقال عُمر: " نذرتُ


(١) الفارق بين النقل والاستعارة: هو أن النقل إخراج اللفظ عن موضوعه لغة، واستعماله فى غير موضوعه لا لعلاقة بين ما نقل عنه وإليه، والاستعارة استعماله فى غير موضوعه لعلاقة بينهما، فالنقل غير مراعى فيه سبق الوضع، بل هو وضع جديد من الشارع، والاستعارة مراعى فيها ذلك.
(٢) فى الأصل: يبعُدُ، والمثبت من ت.
(٣) ابن ماجة، ك الصيام، ب صيام يوم عاشوراء (١٧٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>