قلتُ: مع أنَّ الأصل في الدَّم النَّجاسَة، وهي فيه أظهر منها في الشَّعْرِ؛ لما تقدَّم من أنَّ أكثر الأئمَّة على عدم تَنْجيس الشَّعْر بالموت؛ فيكون الحُكْم بطهارتِه تبعاً للجِلْد أَوْلَى وأَقْوَى من الحُكم بطهارة الدَّم تبعاً للَّحْم.
استدلالٌ آخر من طريق القياس المُسمَّى عندهم قياس العكس؛ قالوا: إذا جُزَّ الشَّعْر من الحيوان الحيِّ المأكول، فهو طاهرٌ؛ لقوله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}[النحل: ٨٠]، امتنَّ به فكان طاهراً، والمأخوذ به من المذبوح لا يفي بالحاجة في مثل ذلك، فكان شاملاً لما جُزَّ في حال الحياة، فلو قُطِعَ في الحياة عُضْوٌ عليه شَعْرٌ حُكِمَ بنجاسة الشَّعْر تبعاً للعُضْو المحكوم بنجاستِه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مَيِّتٌ)، فكما حُكِمَ بنجاسَة الشَّعْر تبعاً للجزء المتَّصل به المحكوم بنجاسته، كذلك قياسُه عكسُه إذا حُكِمَ بطهارة الجِلْد بالدِّباغ يُحكَمُ بطهارة الشَّعْر المتَّصل به تبعاً.
وطريقةٌ أخرى في الاستدلال: وهو أنَّ الأحاديث التي احتَجَجْنا بها صريحةٌ في المقصود، والأحاديث التي احتُجَّ بها للنَّجاسة -وهي أحاديث النَّهي عن جُلُود السِّباع- ليست صريحةً، وإنَّما استُدِلَّ بها بطريق الاستنباط واللُّزوم للمعنى الذي ذَكَرُوه، و (ما كان صريحاً فهو مُقدَّمٌ على ما كان بطريق اللُّزوم).