أنت طالق، فإنها كانت عندهم محمولة فى القديم على التأكيد، فصار الناس الآن يحملونها على التحديد، فألزموا ذلك لقصدهم له.
وقد زعم بعض من لا خبرة له بالحقائق، أن ذلك كان ثم نسخ. وهذا غلط فاحش لأن عمر - رضى الله عنه - لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه منه - لبادرت الصحابة إلى إنكار ذلك عليه، وإن كان يريد أنه نسخ فى حياة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمعنى ما أراد صحيح، لكنه يخرج عن ظاهر الخبر فى قوله:" كان على عهد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر "؛ لأنه إذا نسخ فى عهد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يصدق الراوى فيما قال، فإن قال: كان الصحابة قد تجتمع على النسخ، فيسمع ذلك منها، قلنا: صدقت، ولكن يستدل بإجماعها على أن عندها نصّاً نسخت به نصّاً آخر، ولم ينقل إلينا الناسخ اكتفاء باجتماعها، وإما أن تنسخ من تلقاء نفسها، فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهى معصومة منه.
ولو قدر أن النسخ ظهر لهم فى أيام عمر، وقد أجمع عصر أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - على خلاف حكم الناسخ، لم يصح ذلك، ولأنه لا يكون إجماعاً على الخطأ، ونحن لا نراعى انقراض العصر، وهو مذهب المحققين من أهل الأصول.
وأما رواية أبى داود عن أبى الصهباء؛ أن ذلك كان فيمن لم يدخل بها، فقد ذهب إلى هذا المذهب قوم من التابعين، من أصحاب ابن عباس، ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين، وبقوله: أنت طالق، بانت. وقوله ثلاثاً، كلام وقع بعد البينونة فلا يعتد به، وهذا باطل عند جمهور العلماء؛ لأن قوله: أنت طالق، أعناه: ذات طلاق، وهذا اللفظ يصلح للواحدة كما ذكر. وقولهم:" ثلاثاً " تبين لمعنى قوله: ذات طلاق، فلا يصح إطراحه.
قال القاضى: قوله: " كانت لهم فيه أناة ": أى مهلة وبقية استمتاع وانتظار للرجعة، كما قال تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}(١).
وقوله:" فلما كانت فى عهد يتايع الناس فى الطلاق، فأجازه عليهم ": كذا روايتنا عن أكثرهم: " يتايع " بياء باثنتين تحتها، وكان عند ابن أبى جعفر:" تتابع " بياء واحدة، وهما بمعنى، إلا أن الياء باثنتين إنما تستعمل فى الشر، وهى أليق بهذا المعنى.
ومعنى:" هات من هناتك ": أى من أخبارك وأمورك، وكأنها هنا فيما يستغرب وينكر، كأنه قال: من فتواك المنكرة وأخبارك المكروهة، يقال: فى فلان هنات: أى أشياء منكرة. وهى جمع هنة، ولا يستعمل هكذا إلا فيما يكن عنه. وأما الهنة والهنات تحملا فى غير هذا، فيستعمل فى كل شىء، ويكنى عن كل أمر وقد تقدم من شرحه.