وأما إلزام المخالف بذلها بالقيمة قياسًا على ما قالوه فى الطعام فقياس غير صحيح؛ لأن الطعام يضر به بذله، ولا يخلف ما بذله إلا بسعى ومشقة، والماء ما ذهب منه عاد إليه مثله، وتفجرت به الأرض، فافترق الأصلان.
وقوله:" لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ "، وقوله أيضاً:" لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ ": معناه: أن أصحاب الماشية إذا منعوا الماء لم يردوا عليه، وإذا لم يردوا عليه امتنعوا من رعى ما حوله لعدم الشرب، فيكون منعه الماء قصدًا لمنع الكلأ الذى حوله لا فيه؛ إضرار بالمسلمين ومنعًا لهم من حقوقهم، وذلك غير جائز. وقريب من هذا.
يتأول فى اللفظ الآخر:" لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ ". الكلأ: مهموز مقصور بفتح الكاف هو الرعى. قال بعض أئمة - اللغة: الكلأ: النبات. قال: ومعنى الحديث: أن البئر تكون فى البادية أو فى صحراء ويكون قربها كلأ. فإذا ورد عليها وارد فغلب على مائها ومنع من يأتى بعده من الاستيفاء منها، كان بمنعه الماء مانعًا للكلأ، لأنه متى ورد رجل بإبله فأرعاها ذلك الكلأ ثم لم يَسْقِها قتلها العطش. والذى يمنع ماء البئر يمنع النبات القريب منه، وهو مثل الحديث الآخر:" لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ ". قال أبو القاسم الزجاجى: الكلأ: اسم يقع على جميع النبات والمرعى، فإذا فصل بين الرطب واليابس منه، قيل للرطب: خَلَى مقصور، ورطب بضم الراء وإسكان الطاء، ولليابس حشيش، ومنه يقال: أحشت الناقة ولدها: إذا ألقته يابسًا، وحشت يد فلان: إذا يبست.
قال القاضى: فى قوله: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " أصل لنا، وحجة فى منع الذرائع وسد بابها، وأن منع فضل الماء لا لحاجة إليه لكن ليتذرع به إلى منع الكلأ الذى لا يمكن حوزه والحياطة عليه وكل فيه سبب لمخلوق يتسبب به إلى منعه كما يتسبب صاحب بئر الماشية لمنع فضلها بحفره له. وهذا كله فيما حفره فى غير ملكه، فأما ما حفره فى ملكه ونسيه ولم يخرجه صدقة به ولا أباحَهُ للناس فله منعه.
وقد اختلف شيوخنا فى منع الرجل الكلأ الذى أنبته الله فى أرضه، وهل يكون أحق به أو هو وغيره فيه سواء وهو أحق به إذا احتاجه لنفسه ورعى ماشيته؟ على تفصيل فى كتب الفقه.