وقوله: فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال - عليه السلام -: " إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شىء فاصنعوا به هكذا ". معنى " ند " شرد ونفر.
قال الإمام: اختلف الناس فى الإنسى إذا توحش حتى صار غير مقدور عليه، فمذهب مالك: ألا يذكى إلا بما يذكى به الإنسية، والحجة له لاستصحاب الأصل الذى كان عليه قبل استيحاشه، ولأن الأحكام باقية عليه كبقاء الملك إلى غير ذلك، وكذلك يجب أن يبقى عليه حكم المنع من التذكية بالعقر، وأما أبو حنيفة والشافعى فإنهما أخرجاه عن الأصل ورأيا تذكيته بما يذكى به الوحش؛ اعتباراً بالحالة التى هو عليها، ووجود العلة التى من أجلها أبيح العقر فى الوحش وهو عدم القدرة عليه، وكذلك هذا المستوحش قد صار غير مقدور عليه، واعتمدوا على هذا الحديث، وقد قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شىء فاصنعوا به هكذا "، فقد أباح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصطياد البعير إذا ند بالرمى وهذا نفس ما قالاه.
وقد قال بعض أصحابنا فى الانفصال عن هذا إن الحديث خبر عن فعلة واحدة، لا ندرى كيف وقعت، وجوابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محال عليها، فيقع فى جوابه من الاحتمال ما يقع فيها، ويحتمل أن يكون هذا البعير حبسه السهم ولم يقتله، فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرهم أن حبسه بالرمى وغيره، مما فيه ألم له وتعريض لتلفه يجوز لا على أنه يحصل التذكية به، ويحتمل الحديث سقط التعلق به.
وقد يتعلق المخالف بما خرجه الترمذى عن رجل ذكره، قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا فى الحلق واللبة؟ فقال له:" لو طعنت فى فخذها لأجزأ عنك ". قال يزيد بن هارون: هذا فى الضرورة (١). وهذا الحديث لم يسلم بعض أصحابنا بثبوته، وقال بعضهم: يمكن أن يراد به الصيد الذى لا يقدر عليه، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم عن السائل بقرينة حال أنه سأله عن صيد أراد أن يتصيد، هلا يزكى إلا فى الحلق واللبة؟ فأجابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال. وأما ابن حبيب المجيز لقتل ما سقط فى مهواه بالطعن فى الجنب ونحوه، فإنه قد يحمل هذا الحديث على مثل هذا الذى انفرد بإجازته دون أصحاب مالك، وقد ألزم على
(١) الترمذى، ك الأطعمة، ب ما جاء فى الذكاة فى الحلق واللبة ٤/ ٧٥ (١٤٨١).