للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَى رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فلأسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ، لعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلتَنِى غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: لا، يَارَبُّ، وَيُعَاهِدُهُ ألا يَسْأَلهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ، لأنَّهُ يَرَى مَا لا صَبْرَ لهُ عَليْهِ. فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولى. فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلُّ بِظِلهَا، لا أَسْألكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلمْ تُعَاهِدْنِى أَلا تَسْألَنِى غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّى إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلنِى غَيَرَهَا؟

ــ

أن يقال: من عادة المستهزئ من المخلوقين والسَّاخِر أن يضحك، فيوضع ها هنا يضحك موضع يستهزئ ويسخر لما كانت حالةُ الساخِر. وأما الجواب عن السؤال الثانى: فإن هذا هاهنا لم يقع إلا على جهة المقابلة، وهى وإن لم تكن موجودةً فى اللفظ فهى موجودةٌ فى معنى الحديث؛ لأنه ذكر فيه أنه عاهدَ الله مراراً ألا يسأله غير ما سأل، ثم غدر فحل غدرهُ محل الاستهزاء والسخرية، فقدَّر أن قولَ الله تعالى له: " ادخل الجنَّة " وتردُّده إليها وتخيله أنها ملأى (١) ضرب من الإطماع له أو السخرية به، جزاءً على ما تقدَّم من غدره، وعقوبة له فسمَّى الجزاء على السخرية سخرية فقال: " أتسخر منى؟ ": أى تُعاقبنى بالإطْماع.

قال القاضى: ذهب أبو بكر الصوفى أن قوله: " أتهزأ مِنِّى أو تسخرُ منى " نفى للاستهزاء والسخرية التى لا تجوز على الله، قال: كأنَّه قال: أعلم أنك لا تهزأ منى لأنك رب العالمين، وما أعطيتنى من جزيل العطاء وأضعاف مثل الدنيا حق، لكن العَجبَ أن فعلت لى هذا وأنا غير مستأهل له، قال: فالألف فى أتستهزئ وتسْخَر ألف نفى على هذا التأويل، كما قال تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} (٢) معناه: لا تهلكنا بفعلهم، وهذا كلامُ مُنبسط مُتدلل قد علم مكانه من ربِّه وبَسْطَهُ له بأن جعل يسأل ويتمنى، وهو يُعطيه ويَعرض عليه ما أعَدَّ له ويُشهيه ويُحبُّ أن يلحف فى سؤاله ليُعلى منزلتُه ويدنيه ويُردِّده بالبسط والقبض، تدلل الابن الحبيب على أبيه، ثم يجعله يتمنى حتى تنقطع أمانيه، فسبحانه ما أعظم بِرَّه، وأوسع خيرَه، وأكثر لطفَه بعبده المؤمن وتَحفِّيهِ [به] (٣).

قال القاضى: وقد يكون قول هذا الرجل، لما قال، من هذا اللفظ الشنيع (٤) وهو غير ضابط لما قاله وبما وله عقله من السرور، وبلوغ ما لم يخطر بباله، إذ كان أولاً عاهد الله ألَّا يسأل غير ما رغب فيه، ثم أعطى من غير مسألة ما لم يتوهمه فيكون قوله هذا لما قاله وهو لا يضبط لسانه دهشاً وسروراً فرحًا و [هو] (٥) لا يعتقده (٦) قلبه فى حق بارئه، ظن أنه على عادته يخاطب غيره كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الآخر فى الحديث الصحيح: " أنه لم


(١) فى الأصل: ملا.
(٢) الأعراف: ١٥٥.
(٣) ساقطة من الأصل.
(٤) فى الأصل: البشيع.
(٥) ساقطة من ت.
(٦) وردت فى ق بغير الضمير.

<<  <  ج: ص:  >  >>