للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: إنّما كان القياس يأبى تصغيرَ الفعل؛ لأنّ الغرض من التصغير وصفُ الاسم بالصِّغَر، والمرادُ المسمّى. والأسماء علاماتٌ على المسمّيات، فصُغّرت ألفاظها، لتكون دليلاً على صِغَر المسمّيات. والأفعالُ ليست كذلك، إنّما هي إخباراتٌ، وليست بسِماتٍ كالأسماء، فلم يكن للتصغير فيها معنًى كما لم يكن لوصفها معنًى. والذي يؤيّد عندك بُعدَ الفعل من التصغير أنّ اسم الفاعل إذا كان للحال أو الاستقبال، نحو قولك: "هذا ضاربٌ زيدًا"، فإذا صغّرته، بطل عملُه، فلا ت قوله: "هذا ضوَيْرِبٌ زيدًا"؛ لبُعْده بالتصغير عن الأفعال، وغَلَبَةِ الاسميّة عليه. وإذا كان كذلك، فتصغيرُ فعل التعجّب من قوله [من البسيط]:

يا ما أُمَيْلِحَ غِزْلانًا شَدَنَّ لنا ... من هؤُلَيائِكُنَّ الضَّالِ والسَّمُرِ (١)

شاذّ خارجٌ عن القياس؛ وذلك أنّهم أرادوا تصغيرَ فاعلِ فِعْل التعجّب، وهو ضمير يرجع إلى "ما"، فلم يجز تصغيرُ الضمير؛ لأنّه مستترٌ لا صورة له، مع أنّ المضمرات كلّها لا تُصغّر، كما لا توصَف لشَبَهها بالحروف. ولم يُمْكِنهم تصغيرُ ما يرجع إليه الضميرُ، وهو"ما"؛ لكونه مبنيًّا على حرفَيْن، ولم يُسمَع العدول عنه إلى ما هو في معناه؛ لئلاّ يبطل معنى التعجّب.

ولم يُصغِّروا مفعول الفعل؛ لأنّ الفعل له في الحقيقة. ألا ترى أنّك إذا قلت: "ما أَمْلَحَ زيدًا! " كأنّك قلت: "مَلُحَ زيدٌ جدًّا"؛ لأنّك لو صغّرته، ربّما تُوهِّم أنّ صِغّره لم يكن من جهة الملاحة، إنّما هو من جهة أخرى، فعند ذلك صغّروا لفظ الفعل، والمراد الفاعل. فقولُك: "ما أُمَيْلِحَ زيدًا! " كأنّك قلت: "زيدٌ مُلَيِّحٌ". وشَبَّهَه الخليلُ وسيبويه (٢) بقولهم: "بنو فلانِ يَطَؤُهم الطريقُ"، و"صِيدَ عليه يومان"، والمراد: يطؤهم أهلُ الطريق الذين يمرّون عليه، فحذف "أهلًا" وأقام "الطريق" مُقامه. ومعنى "يطؤهم الطريق"، أي: بُيُوتُهم على الطريق، فمن جاز فيه رآهم، وثقُل عليهم. وقوله: "صِيدَ عليه يومان" معناه: صِيدَ عليه الصَّيْدُ يومَين، فحُذف "الصيد"، وأُقيم "اليومان" مقامه، وإنّما يفعلون ذلك فيما لا يُلبس، فاعرفه.

[فصل [ما كان من الأسماء علي بناء التصغير]]

قال صاحب الكتاب: من الأسماء ما جرى في الكلام مصغراً, وترك تكبيره؛ لأنه عندهم مستصغرٌ، وذلك نحو: "جميلٍ", و"كُعيتٍ", و"كُميتٍ"، وقالوا:


(١) تقدم بالرقم ١٠٤.
(٢) الكتاب ٣/ ٤٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>