لأنهما من فعله، وإن تعجّبتَ من الضرب؛ لم يجز لأنّه ليس له، ولذلك لا يبنى منه "أفعل من كذا".
وقد جاء من ذلك ألفاط يسيرة تُحْفَظ حِفْظًا، ولا يقاس عليها، ولذلك قال:"القياس أن يفضَّل على الفاعل دون المفعول"، وقد شذّت ألفاطٌ يسيرة متأوَّلة؛ من ذلك قولهم في المثل:"أشغلُ من ذات النِّحْيَيْن"، وهي قِصّة خَوّات بن جُبَيْر الأنصاري مع امرأة من العرب، أتت سُوقَ عُكاظٍ، ومعها نِحْيا سمن، فاعترضها خوّاتٌ، وفتح فم أحد النحيين، وذاقَه، ودفعه إليها، فأمسكته بيَدها الواحدة، ثمّ فتح فم الآخر، ودفعه إليها، فأمسكته بيدها الأخرى، فاشتغلت يداها بتمسُّك فمَي النحيين، ثم واقَعَها، فضُرب المثل بها في الاشتغال. والذي سهّل ذلك أنّها وإن كانت مشغولة، فهي ذات شُغْل، ويجوز أن يكون المراد: أشغل من ذات النحيين ليَدَيْها، فلا يكون حينئذ شاذًا، وكذلك سائرُ ما ذكر من قوله:"أزهَى من دِيكٍ"، و"هو أعذر منه"، و"ألوَمُ"، و"أشهر"، ألا ترى أنّه ذو زَهْو، وذو عُذْر، وذو لَوْم، وذو اشتهار؟ وكذلك البقية، فاعرفه.
فصل [تعريفه بـ "أل" وتجرّده منها]
قال صاحب الكتاب: وتعتوره حالتان متضادتان: لزوم التنكير عند مصاحبة "من"، ولزوم التعريف عند مفارقتها, فلا يقال:"زيدٌ الأفضل من عمرو", ولا "زيدٌ أفضل", وكذلك مؤنثه وتثنيتهما وجمعهما، لا يقال فضلى ولا أفضلان ولا فُضليان ولا أفاضل ولا فضليات ولا فُضَلُ، بل الواجب تعريف ذلك باللام أو بالإضافة، كقولك الأفضل والفضلى وأفضل الرجال وفضلى النساء.
* * *
قال الشارح: هذا الضرب من الصفات موضوع للتفضيل، وأصله أن يكون موصولًا بـ "مِنْ"، و"مِنْ" فيه لابتداء الغاية، فإذا قلت:"زيد أفضل من عمرو"، فالمراد أن فضله ابتدأ راقيًا من فضل عمرو، وكل من كان مقدارُ فضله كفضل عمرو، فكأنّك قلت:"علا فضلُه على هذا المقدار"، فعلم المخاطب أنّه علا عن هذا الابتداء، ولم يعلم موضع الانتهاء، فصار كقولك:"سار زيدٌ من بغدادَ"، فعُلم الموضع الذي ابتدأ سيرُه منه، وتجاوزه، ولم يعلم أين انتهى، فلمّا كان معنى الباب الدلالةَ على ابتداء التفضيل؛ لم يكن بد مِن "مِنْ" ظاهرة، أو مضمرة، لإفادة المعنى المذكور، ولا يجوز تعريفه - والحالةُ هذه- لا بالألف واللام، ولا بالإضافة, لأنّه بمنزلة الفعل، والفعل لا يكون إلَّا نكرة، لأنّه موضوع للخبر، والمراد من الخبر الفائدة، فلو عُرّف لم يبق مُفيدًا.