قال صاحب الكتاب:"وتمييز المفرد أكثره فيما كان مقداراً: كيلاً كـ "قفيزان", أو وزناً كـ "منوان", أو مساحةً كـ "موضع كف", أو عددًا كـ "عشرون" أو مقياساً كـ "ملؤه" و"مثلها". وقد يقع فيما ليس إياها, نحو قولهم: "ويحه رجلاً"، و"لله دره فارساً", و"حسبك به ناصراً"".
* * *
قال الشارح: تمييزُ المفرد أكثرُ ما يجيءُ بعد المقادير. والمِقدارُ هو المقابِل للشيء، يعدِلُه من غيرِ زيادة ولا نُقْصانٍ. والمقاديرُ أربعةُ أضرب: مَكِيلٌ، وموزونٌ، وممسوحٌ، ومعدودٌ، فالمكيلُ نحو قولك:"مَكُّوكان دَقِيقًا"، و"قَفِيزان بُرًّا". والموزونُ:"مَنَوان سَمْنًا"، و"رَطْلان عَسَلاً"، والممسوحُ:"بلغتْ أرضُنا خمسين جَرِيبًا"، و"ما في السماء موضعُ كفّ سَحابًا". والمعدودُ نحو:"عشرين درهمًا". وكلُّها محتاجةٌ إلى إبانتها بالأنواع؛ لأنّها تقع على أشياء كثيرةٍ، فإذا قلت:"مكّوكان"، احتمل أنّ يكون حِنْطة، أو شَعِيرًا، أو غيرَهما ممّا يكال. وإذا قلت:"منوان"، أحتمل أشياء كثيرةً مما يوزَن نحوَ "السمن"، و"العسل". وإذا قلت:"بلغتْ أرضُنا"، وأردتَ المِساحةَ، احتمل أشياء من المقادير المتماسَح بها، نحو:" الجَرِيب"، و"الذراع"، و"المُدي"، ونحو ذلك. وكذلك إذا قلت:"عندىِ عشرون"، احتمل دنانيرَ، ودراهمَ، وثِيابًا، وعَبِيدًا، وغيرَها من المعدودات، فوَجَبَ لذلك إبانتُها بالنوع.
وحقٌّ النوع المفسِّر أن يكون جمعًا معرَّفًا بالألف واللام، نحو"عشرين من الدراهم"؛ أمّا كونُه جمعًا، فلأنّه واقعٌ على كلّ واحد من ذلك النوع، فكان واقعًا على جماعةٍ، وأمّا كونُه معرَّفًا باللام فلتعريفِ الجنس، فإذا قلت:"عشرون من الدراهم"، كنتَ قد أتيتَ بالكلام على وَجْهه، ومقتضَى القياس فيه، وإن أردتَ التخفيفَ، قلت:"عشرون درهمًا"، فتحذِف لفظَ الجمع، وحرفَ التعريف، واكتفيتَ بواحد من ذلك منكورٍ, لأن الواحد المنكور شائعٌ في الجنس، فلشياعه جرى مجرى الجمع.
وأمّا قوله:"أو مقياسًا، فالمقياسُ: المقدارُ. يقال: "قِسْتُ الشيءَ بالشيء" إذا قدّرتَه به، وقولُه: "مِلْؤُه ومثلُها"، فإشارةٌ إلى قولهم: "مِلءُ الإناء عسلًا"، و"على التمرة مثلُها زبدًا"، والفرق بين المقياس وغيره من المقادير المذكورة أنّ تلك المقادير المذكورة أشياءُ محقَّقةٌ محدودةٌ، والمقياسُ مقدارٌ على سبيلِ التقريب، لا التحديدِ. ألا ترى أنّ مِلءَ الإناء، ومثلَ التمرة ليسا بكَيْلٍ معروفٍ، ولا ميزانٍ، ولا مساحةٍ، وإنّما هو تقريبٌ لمقداره.