قال صاحب الكتاب:"وفي كلامهم ما هو على طريقةِ النداء، ويُقصد به الاختصاصُ، لا النداءُ، وذلك قولهم: "أمّا أنا فأفعلُ كذا أيُّها الرجلُ"، و"نحن نفعل كذا أيُّها القومُ"، و"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا أيتُها العِصابةُ". جعلوا "أيّا" مع صفته دليلاً على الاختصاص والتوضيح، ولم يعنوا بالرجل، والقوم، والعصابةِ إلاَّ أنفسَهم وما كنوا عنه بـ"أنَا" و"نحن" والضميرِ في "لَنَا"، كأنّه قيل: أمّا أنا فأفعلُ متخصّصًا بذلك من بينِ الرجال، ونحن نفعل متخصِّصين من بين الأقوام، واغفرْ لنا مخصوصين من بين العصائب".
* * *
قال الشارح: اعلم أنّ كلَّ منادى مختصٌّ، تختصُّه فتُناديه من بينِ مَن بحَضْرتك لأمْرك، ونَهْيك، أو خبرِك. ومعنَى اختصاصك إياه أن تقصِده، وتختصّه بذلك دونَ غيره. وقد أجرتِ العرب أشياءَ اختصّوها على طريقة النداء لاشتراكهما في الاختصاص، فاسْتعير لفظُ أحدهما للآخر من حيث شارَكَه في الاختصاص، كما أجروا التسْويةَ مُجْرَى الاستفهام، إذ كانت التسوية موجودةً في الاستفهام. وذلك قولك:"أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ "، و"أزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ؟ " فالشيئان اللذان تسأل عنهما قد استوى عِلْمُك فيهما، ثمّ تقول:"ما أُبالي أقمتَ أم قعدتَ" و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}(١). فأنت غيرُ مستفهم، وإن كان بلفظ الاستفهام لتشارُكهما في معنى التسوية، لأنّ معنى قولك:"لا أُبالي أفعلتَ أم لم تفعل"، أي: هما مستوِيان في عِلْمىِ. فكما جاءت التسويةُ بلفظ الاستفهام لاشتراكهما في معنى التسوية، كذلك جاء الاختصاصُ بلفظ النداء لاشتراكهما في معنى الاختصاص، وإن لم يكن منادى. والذي يدلّ على أنّه غير منادى أنّه لا يجوز دخولُ حرف النداء عليه، لا تقول:"أنا أفعلُ كذا يا أيُّهذا الرجلُ" إذا عنيتَ نفسك، ولا "نحن نفعل كذا يا أيُّها القومْ" إذا عنيتم أنفسَكم، لأنّك لا تُنبِّه غيرَك.
وهذا الاختصاص يقع للمتكلّم، نحوِ:"نحن نفعل أيُّها العِصابةُ"، وتعني بالعصابة أنفسَكم، وللمخاطب، نحوِ:"أنتم تفعلون أيّها القومُ"، ولا يجوز للغائب، لا تقول:"إنهم كذا أيّتُها العصابةُ".