للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالوا: "رُضْتُه إذْلالًا". وذهب الآخرون إلى أنّ الفعل لا يعمل في شيء من المصادر إلَّا أن يكون من لفظه، نحو: "قمتُ قيامًا", لأنّ لفظه يدلُّ عليه إذ كان مشتقًّا منه. وما كان ممّا تقدّم ذكره، نحو: "قعدتُ جلوسًا"، و"حبستُ منعًا"، فهو منصوبٌ بفعل مقدَّر دلّ عليه الظاهرُ، فكأنّك قلت: "قعدتُ، فجلستُ جلوسًا"، و"حبست، فمنعت منعًا". وكذلك كلُّ ما كان من هذا الباب، وهو رأيُ سيبويه (١)؛ لأنّ مذهبه أنّه إذا جاء المصدر منصوبًا بعد فعلٍ ليس من حروفه كان انتصابه بإضمار فعل من لفظِ ذلك المصدر؛ فأمّا: قولهم: "ضربتُه أنواعًا من الضرب، وأيَّ ضربٍ، وأيَّما ضربٍ" فهذه تعمل فيها الأفعالُ التي قبلها بلا خلاف، وانتصابُها على المصدر. والحق فيها أنهاَ صفاتٌ قد حُذفت موصوفاتُها، فكأنّه إذا قال: "ضربتُه أنواعًا من الضرب" فقد قال: "ضربتُه ضربًا متنوِّعًا"، أي: مختلفًا. وإذا قال: "أيَّ ضرب، أيَّما ضربٍ"، فقد قال: "ضربتُه ضربًا. أيَّ ضرب وأيّما ضربٍ" على الصفة، ثمّ حُذفَ الموصوف، وأُقيم الصفة مقامه.

وأمّا "رجع القَهْقَرى"، و"اشتمل الصَّمّاء"، و"قعد القُرْفَصاءَ" فقال قال سيبويه (٢): إِنَّها مصادر وهي منصوبة بالفعل قبلها، لأنّ القهقرى نوعٌ من الرُّجوع، فإذا تعدَّى إلى المصدر الذي هو جنسٌ عامٌ كان متعدِّيًا إلى النوع، إذ كان داخلًا تحته، وكذلك "القرفصاءُ" نوعٌ من القُعود، وهي قِعْدَةُ المحتبِي. والصَّمّاءُ: أن يُلْقِيَ طَرَفَ رِدائه الأيْمَنَ على عاتِقه الأيْسر. وقال أبو العباس: هذه حُلَى وتَلْقِيباتٌ وصفت بها المصادرُ، ثمّ حُذفت موصوفاتُها، فإذا قال: "رجع القهقرى"، فكأنّه قال: الرِّجْعَة القهقرى وإذا "اشتمل الصمّاء"، فكأنّه قال: "الاشتمالة الصمّاء"، وإذا قال: "قعد القرفصاء"، فكأنه قال: القِعْدَةَ القرفصاء. والفرق بين انتصابه إذا كان صفة وبين انتصابه إذا كان مصدرًا وإن كان العاملُ الفعلَ في كِلَا الحالين، أنّ العامل فيه إذا كان مصدرًا عمِل بمباشَرةٍ من غيرِ واسِطة، وإذا كان صفة عمِل فيه بواسطة الموصوف المقدَّرِ؛ وأمّا "ضربتُه سَوْطًا" فهو منصوبٌ على المصدر، وليس مصدرًا في الحقيقة، وإنّما هو آلةٌ للضرب، فكأنّ التقدير: ضربتُه ضرْبَةً بالسوط، فموضعُ قولك: "بالسوط" نصبُ صفةٍ لضرْبَةٍ، ثمّ حذفتَ الموصوفَ، وأقمتَ الصفة مُقامَه، ثمّ حُذف الجرّ، فتَعَدَّى الفعلُ فنَصَبَ، وأفاد العَدْوُ الدلالة على الآلة فاعرفه.

فصل [المصادر المنصوبة بأفعال مُضمرة]

قال صاحب الكتاب: "والمصادر المنصوبة بأفعال مضمرة على ثلاثة أنواع: ما


= والشاهد فيه قوله: "يعجبه .. حبًا ما له مزيد" حيث نصب المصدر الذي من معنى الفعل، وليس من لفظه على أنّه مفعول مطلق, لأنّ الحب بمعنى الإعجاب.
(١) الكتاب ١/ ٨١، ٨٢.
(٢) الكتاب ١/ ٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>