للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و"أبصعون" من البَصْع، وهو الجَمْع، وبعضُهم يقول: "أبضعون" بالضاد المعجمة، وليست بالفاشِيَة، كأنه من "تَبَضعَ العَرَقُ"، إذا سالَ، إلّا أن "أجمع" أظهرُ في التأكيد، فلذلك كانت مقدَّمة. وأمّا "نفسه" و"عينه"، فيؤكَّد بهما ما تُثْبَت حقيقتُه. و "كُلّ"، و"أَجْمَعُ" فمعناهما الإحاطةُ والعُمومُ، فلا يؤكَّد بهما إلّا ما يتبعّضُ ويتجزأُ.

وتقول: "قام زيدٌ نفسُه"، و"ذهب عمرٌو عينُه"، فالعينُ هنا بمعنَى نفسِ الشيء.

فأمّا قول صاحب الكتاب: "فَعَلَ زيدٌ نفسُه، وعينُه، والقومُ أنفُسُهم وأعيانُهم"، فالمراد أن هذه الأشياء من ألفاظِ التأكيد، وتُؤكد بأيها شئتَ، لا أنّك تجمع بينهما بحرف العطف, لأنّ أسماءَ التأكيد لا يُعطَف بعضُها على بعض، وتقول: "جاءني القومُ كلُهم أجمعون"، فتُفيد بذلك استيفاءَ عدّةِ القوم. ولو قلت: "جاءني زيدٌ كلُّه، أو أجمعُ"، لم يجز؛ لأن "زيدًا" ليس ممّا يتجزأُ ويتبعّضُ، فإن أردتَ أنَّه جاء سالِمَ الأعضاء والأجزاءَ، جاز. وتقول: "أكلتُ الرَّغِيفَ كله"؛ لأنّ الرغيف ممّا يتجزأ، فيجوز أن يكون أُكل الأكثر منه. فـ "نفسُه" و"عينُه" يؤكد بهما ما يتبعض وما لا يتبعض؛ لأنّهما لإثباتِ حقيقةِ الشيء. و"كلٌّ" و"أجمعُ" لا يؤكد بهما إلّا ما يتبعض، فاعرفه.

[فصل [فائدة التوكيد]]

قال صاحب الكتاب: وجَدْوَى التأكيدِ أنك إذا كرّرتَ؛ فقد قررتَ المؤكَّدَ، وما عُلق به في نفسِ السامع، ومكّنتَه في قلبه، وأمطتَ شُبْهةً، رُبَّما خالجته، أو توهمتَ غَفْلةٌ وذَهابًا عمّا أنت بصَدده، فأزلتَه. وكذلك إذا جئتَ بـ "النَّفْس" و "العَين"، فإنّ لظانّ أن يظُنّ حينَ قلتَ: "فعل زيدٌ" أن إسنادَ الفعل إليه تجوُّزٌ، أو سَهْوٌ، أو نِسْيانٌ. و"كُلٌّ" و"أَجْمَعُونَ" يُجدِيان الشُمولَ والإحاطة.

* * *

قال الشارح: فائدةُ التأكيد تمكينُ المعنى في نفس المخاطب، وإزالةُ الغَلَط في التأويل، وذلك من قِبَل أن المجازَ في كلامهم كثيرٌ شائعٌ، يُعبَّرون بأكثرِ الشيء عن جميعه، وبالمسبَّب عن السبب. ويقولون: "قام زيدٌ"، وجاز أن يكون الفاعلُ غلامَه، أو ولدَه، و"قام القومُ" ويكون القائمُ أكثرهم، ونحوَهم ممّن ينطلِق عليه اسمُ القوم. وإذا كان كذلك، وقلتَ: "جاء زيدٌ"، ربما تتوهمُ من السامع غفلةً عن اسمِ المُخْبَر عنه، أو ذَهابًا عن مُراده، فيحمِلُه على المجاز، فيُزال ذلك الوَهْمُ بتكريرِ الاسم، فيقال: "جاءني زيدٌ زيدٌ"، وكذلك "النفسُ"، و"العينُ" إذا قلت: "جاءني زيدٌ نفسُه أو عينُه"، فيُزيل التأكيدُ ظَنَّ المخاطَب من إرادةِ المَجاز، ويُؤْمِن غفلةَ المخاطب.

و"كُلٌّ"، و"أجمعُ" يُجْدِيان الشُّمول، والعُمومَ، والتأكيدُ بهما لإفادةِ ذلك، فإذا

<<  <  ج: ص:  >  >>