فإن قيل: كيف جاز أن تقول: "قام القومُ غيرَ زيد"، فتنصب "غيرًا" بالفعل قبله، وهو لازمٌ غيرُ متعدّ؟ فالجوابُ أنّ "غيرًا" ههنا لمّا كانت مُشابِهةً لـ"سِوى" بما فيها من الإبهام، ألا ترى أنّك إذا قلت:"مررت برجلٍ غيرِك"، فهو غيرُ متميِّزٍ كما أنّ "سوى" كذلك فكما يتعدّى الفعلُ اللازمُ إلى "سوى" بنفسه، كذلك يتعدّى إلى "غير", لأنّه في معناه. وهذا معنى قوله:"وقالوا: إنّما عمل فيه الفعلُ غيرُ المتعدّي لشَبَهه بالظرف"، يريد سِوى.
فصل [شبه "غير" بـ "إلّا"]
قال صاحب الكتاب:"واعلم أن "إلا" و"غيراً" يتقارضان ما لكل واحد منهما, فالذي لـ "غير" في أصله أن يكون وصفاً, يمسه إعراب ما قبله، ومعناه المغايرة, وخلاف المماثلة, ودلالته عليها من جهتين: من جهة الذات, ومن جهة الصفة, تقول: "مررت برجلٍ غير زيد" قاصداً إلى أن مرورك كان بإنسان آخر, أو بمن ليست صفته صفته، وفي قوله عز وجل:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(١) الرفع صفة للقاعدون, والجر صفة للمؤمنين والنصب على الإستثناء. ثم دخل على "إلا" في الإستثناء".
* * *
قال الشارح: قوله: "يتقارضان ما لكلّ واحد منهما"، يعني أنّ كلّ واحد منهما يستعِير من الآخر حكمًا، هو أخصٌّ به، فحكمُ "غيرٍ" الذي هو مختصٌّ به الوصفيّةُ أن يكون جاريًا على ما قبله تَحْلِيَة له بالمغايَرة، فأصلُ "غيرٍ" أنّ يكون وصفًا، والاستثناءُ فيه عارضٌ مُعارٌ مِن "إلّا". ويوضِح ذلك، ويُؤكّده أنّ كل موضع يكون فيه "غيرٌ" استثناءً، يجوز أنّ يكون صفةً فيه، وليس كل موضع يكون فيه صفةً يجوز أنّ يكون استثناءً، وذلك نحوُ قولك:"عندي مائةٌ غيرَ درهمٍ": إذا نصبتَ كانت استثناء، وكنتَ مُخبِرًا أنّ عندك تسعةً وتسعين درهمًا، وإذا رفعت كنت قد وصفتَه بأنّه مغايِر لها. وكذلك إذا قلت:"عندي درهمٌ غيرَ دانِقٍ، وغيرُ دانقٍ": إذا استثنيتَ نصبتَ، وإذا وصفت رفعت. وتقول:"عندي درهمٌ غيرُ زائفٍ، ورجلٌ غيرُ عاقلٍ"، فهذا لا يكون فيه "غيرٌ" إلّا وصفًا، لا غيرُ، لأنّ الزائف ليس بعضًا للدرهم، ولا العاقل بعضَ الرجل.
وحقيقةُ الاستثناء إخراجُ بعضٍ من كل، والفرقُ بين "غير" إذا كانت صفة، وبينها إذا كانت استثناءً، أنّها إذا كانت صفة لم تُوجِب للاسم الذي وصفتَه بها شيئًا، ولم تَنْفِ