قال صاحب الكتاب: انتصابه بـ "أن" وأخواته، كقولك:"أرجو أن يغفر الله لي"، و {لن أبرح الأرض}(١)، و"جئت كي تعطيني"، و"إذن أُكرمك".
* * *
قال الشارح: قد تقدّم الكلام في إعراب الفعل، وأنّه يدخله الرفع والنصب والجزم، وقد استوفيتُ الكلام على رفعه؛ فأمّا النصب فيه فبعواملَ لفظية، وهي "أنْ"، و"لَن"، و"كَي"، و"إذَنْ". هذه الأربعة تنصب الفعل بأنفسها، وما عداها فبإضمارِ "أن" معها على ما سيأتي بيانه. والأصلُ من هذه الأربعة "أن"، وسائر النواصب محمولة عليها. وإنما عملت لاختصاصها بالأفعال كما عملت حروف الجرّ في الأسماء لاختصاصها بها، وأمّا عمل النصب خاصة فلشَبَه "أنِ" الخفيفة بـ"أنَّ" الثقيلة الناصبة للاسم. ووجهُ المشابهة من وجهين: من جهة اللفظ والمعنى: فأمّا اللفظ فهما مثلان، وإن كان لفظ هذه أنقص من تلك، ولذلك يستقبحون الجمع بينهما، كما يستقبحون الجمع بين الثقيلتَين، فلا يحسن عندهم "إنّ أنْ تقوم خيرٌ لك"، كما يستقبحون "إنّ أنَّ زيدًا قائم يُعجِبني" في معنى "إن قيام زيد يعجبنى". وأمّا المعنى فمن قبل أنّ "أن" وما بعدها من الفعل في تأويل المصدر، كما أنَّ "إنّ" المشدّدة وما بعدها من الاسم والخبر بمنزلة اسم واحد، فكما كانت المشدّدة ناصبة للاسم، جُعلت هذه ناصبة للفعل.
فإن قيل: فهلّا ينصبون بـ"مَا" المصدريّة في قولك: "يعجبنى ما تصنع"، وهي مع ما بعدها مصدرٌ كما كانت "أنَّ" كذلك؟ فالجواب أنَّ الفرق بينهما مْن وجهَين:
أحدهما: أنّ "أنْ" نصبت لمشابهةِ "أنَّ" الثقيلة بعد استحقاق العمل بالاختصاص؛ فأمّا "مَا" فلم تستحق به العملَ, لأنه لا اختصاص لها بالفعل، ألا ترى أنه يقع بعدها الفعل والاسم، فكما يُقال:"يعجبني ما تصنع" بمعنى صَنِيعُك، فكذلك يُقال:"يعجبني ما أنت صانعٌ" في معنى صنيعك أيضًا، فلمّا لم يكن لها اختصاص واستحقاق لنفس العمل، لم يؤثر فيها شَبَهُ "أنْ"