للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قيل: كونُ "أنْ" مع الفعل في تقدير المصدر شيءٌ تقديريٌّ، والاسمُ غير ملفوظٍ به، وإنّما الملفوظُ به فعلٌ وحرفٌ، فلمّا أضيفتا إلى ما ذكرنا، مع لزومهما الإضافةَ، بُنيتا معها؛ لأنّ الإضافة بابُها أن تقع على الأسماء المفردةِ. فلمّا خرجتْ ها هنا عن بابها، بُني الاسم، وسيوضح بأكثرَ من ذلك. يقول: لم يمنعْنا من التعريج على الماء إلَّا صوتُ حمامةٍ ذكّرتْنا من نُحِبُ، فَهَيَّجَنا، وحَثَّنا على السَّيْر. والأَوْقال: الأعالِي، ومنه التَّوَقُّلُ وهو الصُّعود فيه. ونحو ذلك قول النابغة [من الطويل]:

على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... وقلتُ: أَلمَّا أَصْحُ والشَّيْبُ وازعُ (١)

الشاهد فيه إضافةُ "حِينَ" إلى الفعل الماضي، وبناؤه لذلك على الفتح، والإعرابُ جائزٌ على الأصل، غيرَ أنّ البناء ههنا أوجهُ منه في قوله: "غيرَ أن نطقتْ"؛ لأنّ الظرف ههنا مضافٌ إلى فعل محضٍ، وفي قوله: "غيرَ أن نطقت" مضافٌ إلى اسم متأوَّلٍ، فكان الإعرابُ فيه أظهرَ. وصف أنّه بَكَى على الديار زمنَ مَشِيبه، ومُعاتَبتِه لنفسه على صِباه وطَرَبِه. والوازعُ: الناهي. وأوقعَ الفعلَ على المشيب اتّساعًا. والمعنى: عاتبتُ نفسي على الصِّبا لمكانِ شَيْبي، فاعرفه.

[[علامة البناء]]

قال صاحب الكتاب: والبناءُ على السكون هو القياسُ، والعدول عنه إلى الحركة، لأحدِ ثلاثةِ أسباب: للهَرَب من التقاءِ الساكنَين في نحو "هؤُلاءِ"، ولئلاّ يُبتدأ بساكن لفظًا، أو حُكْمًا كالكافَيْن: التي بمعنَى "مِثْلٍ"، والتي هي ضميرٌ، ولعُروضِ البناء، وذلك في نحو"يا حَكَمُ" و"لا رجلَ في الدار"، و {مِن قَبْلُ ومن بَعْدُ} و {خمسةَ عَشَرَ} (٢).

* * *

قال الشارح: القياس في كلِّ مبنيّ أن يكون ساكنًا، وما حُرّك من ذلك، فلعِلّةٍ. فإذا وجدتَ مبنيًّا ساكنًا، فليس لك أن تسأل عن سبب سُكونه؛ لأنّ ذلك مقتضَى القياس فيه. فإن كان متحرِّكًا، ذلك أن تسأل عن سبب الحركة، وسبب اختصاصه بتلك الحركة دون غيرها من الحركات. وإنّما كان القياس في كلّ مبني السكونَ لوجهَيْن: أحدهما أنّ البناء ضدُّ الإعراب، وأصلُ الإعراب أن يكون بالحركات المختلِفةِ للدلالةِ على المعاني المختلفة، فوجب أن يكون البناءُ الذي هو ضدُّه بالسكون. والوجه الثاني أن الحركة زيادةٌ مستثقَلةٌ بالنسبة إلى السكون، فلا يُؤتَى بها إلّا لضرورةٍ تدعو إلى ذلك.

والأسباب المُوجِبة لتحريكِ المبنيّ أحدُ ثلاثةِ أشياء: الفِرارُ من التقاء الساكنَيْن، والبَداءَةُ بالحرف الساكن لفظًا أو حكمًا، وأن يكون المبنيُّ له حالةُ تمكُّنٍ. فالأوّلُ نحو


(١) تقدم بالرقم ٣٨.
(٢) الروم: ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>