للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: قد تقدّم من كلامنا أن الأمر والنهي قد يُجابان بالجزم، على تقدير إضمار حرف الشرط بعدهما؛ لِما بينهما من المشاكلة.

فكذلك ما كان في معنى الأمر والنهي إذا أُجيب يكون مجزومًا, لأنّ العلّة في جزم جواب الأمر إنما كانت من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وإذا كان من جهة المعنى، لزم في كلِّ ما كان معناه معنى الأمر.

فمن ذلك قولهم: "اتقى الله امرؤٌ وفعل خيرًا يُثَبْ عليه"؛ لأنّ المعنى: لِيَتَّقِ الله، ولِيَفْعَلْ خيرًا. وليس المراد الإخبار بأنّ إنسانًا قد اتقى الله، وإنما يقوله مَثَلاً الواعظُ حاثًّا على التُّقَى والعمل الصالح. ويُقدَّر بعده حرف الشرط كما كان يقدر بعد الأمر الصريح. والخبرُ قد يستعمل بمعنى الأمر، نحوَ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (١)، أي: لِيرضعن، ومن ذلك قولهم في الدعاء: "رَحِمَه اللهُ" لفظُه لفظ الخبر، ومعناه الأمر.

ومن ذلك قولهم: "حَسْبُك يَنَم الناسُ"، معنى "حسبك" هنا الأمرُ، أي: اكْتَفِ، واقْطَعْ، ومثله: "كَفْيُك"، و"شَرْعُك" كلّها بمعنى واحد، وكذلك "قَدْكَ"، و"قَطْكَ" كلّه بمعنَى "حسبُ". وقولهم: "حسبُك ينم الناس" كأنّ إنسانًا قد كان يُكْثِر الكلام ليلاً، ويَصِيح بحيث يُقْلِق من يسمعه، فقيل له ذلك، أي: اكتفِ واقطعْ من هذا الحديث، فإن تفعلْ ينمِ الناس، ولا يَسْهَروا. و"حسبُك" هنا مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوف لعلم المخاطب به، وذلك أنه لا يقال شيء من ذلك إلَّا لمن كان في أمر قد بلغ منه مَبْلغًا فيه كفايةٌ، فيقال له هذا ليَكُفّ ويكتفي بما قد علمه المخاطبُ، وتقديرُ الخبر: "حسبُك هذا، أو حسبُك ما قد علمتَه"، ونحوُ ذلك، فاعرفه.

[فصل [الجزاء شرط الجزم]]

قال صاحب الكتاب: وحق المضمر أن يكون من جنس المظهر, فلا يجوز أن تقول: "لا تدن من الأسد يأكلك"، بالجزم؛ لأن النفي لا يدل على الإثبات، ولذلك امتنع الإضمار في النفي, فلم يقل: "ما تأتينا تحدثنا"، ولكنك ترفع على القطع, كأنك قلت: "لا تدن منه فإنه يأكلك". وإن أدخلت الفاء ونصبت, فحسن.

* * *

قال الشارح: اعلم أن المعنى إذا كان مرادًا، لم يجز حذف اللفظ الدالّ عليه, لأنه يكون إخلالاً بالمقصود، اللهُمَّ إلا أن يكون ثَمَّ ما يدل على المعنى، أو على اللفظ


(١) البقرة: ٢٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>