الموضوع بإزاء ذلك المعنى، فيحصُل العلم بالمعنى ضرورةَ العلم بلفظه. وههنا إنما ساغ حذف الشرط وأداته لتقدُّمِ ما يدلّ عليه من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض، فيلزم أن يكون المضمر من جنس الظاهر، إذ لو خالَفَه لَما دلّ عليه، فإذا كان الظاهر موجَبًا، كان المضمر موجبًا، وإذا كان نفيًا كان المضمر مثله. والأمرُ كالموجب من حيث كان طَلَبَ إيجاب، والنهيُ كالنفي من حيث كان طلب نفي، فلذلك كان حكم الأمر كحكم الموجب، فكما يكون الموجب بأداة وبغير أداة، نحوَ:"إن زيدًا قائمٌ"، و"زيدٌ قائمٌ"، كذلك يكون الأمر بأداة وبغير أداة، نحوَ:"ليَقُمْ زيدٌ"، و"قُمْ يا زيدُ". وكما لا يكون النفي إلا بأداة، كان النهي كذلك، نحوَ:"لا تَقُمْ". فإذا كان الظاهر أمرًا، كان المضمر فعلاً موجبًا، وذلك إذا قلت:"أكْرِمْني أكرِمْك"، كان التقدير:"إن تكرمْني أكرمْك"، وإذا قلت:"لا تَعْصِ الله يُدْخِلْك الجنّةَ"، كان المعنى: إن لا تَعْصِه يدخلْك الجنّة.
قال النحويون: إنه لا يجوز أن تقول "لا تَدْنُ من الأسد يَأْكُلْك" بالجزم؛ لأنّ التقدير عندهم أن يُعاد لفظ الأمر والنهي، فيُجْعَل شرطًا جوابُه ما ذُكر بعد الأمر والنهي، فيصير التقدير: إن لا تدن من الأسد يأكْلك، وهذا محال.
قال: ولذلك امتنع: "ما تأتينا تحدّثْنا" بالجزم، يشير إلى أن المانع من جواز الجزم مع النفي من حيث امتنع مع النهي, لأنه يصير التقدير:"ما تأتينا إن لا تأتنا تحدّثْنا"، وذلك محال. وليس الأمر على ما ظنّ؛ لأنّ النهي يجوز في موضع، ويمتنع في آخر: ألا ترى أنك إذا قلت: "لا تَعْصِ الله يُدْخِلْكَ الجنةَ"، كان صحيحًا؛ لأنّ التقدير "إن لا تعصه" وهذا كلام سديد، ولو قلت:"لا تَعْصِ الله يُدْخِلْك النارَ"، كان محالاً؛ لأنّ عدم المَعْصية لا يوجب النارَ. وأنت في طرف النفي لا تُجوِّز الجواب بالجزم بحالٍ، فعُلم أن العلّة المانعة في طرف النفي غير العلّة المانعة في طرف النهي. وإنما لم يجز الجواب مع النفي بالجزم؛ لأنه ليس فيه معنى الشرط، إذ كان النفي فيه يقع على القطع، نحوَ قولك:"ما يقوم زيد"، فقد قطع بأنّه ليس يقوم، فالأمرُ والنهي والاستفهام والتمنّي والعرض، فليس فيه قطعٌ بوقوع الفعل، فمِن هنا تَضمّن معنى الشرط.
قال: ولكنّك ترفع على القطع، يريد إذا رفعت الفعل في جواب النهي، جاز على الاستئناف، لا على أنه جواب، كأنك قلت:"لا تدنُ من الأسد، إنّه ممّا يأكلُك فاحذَرْه". ومثله "لا تذهبْ به تُغلَبُ عليه" الجزْمُ فاسدٌ، والرفع جيّد.
فإن جئت بالفاء ونصبت، كان حسنًا, لأنّ الجواب بالفاء مع النصب تقديره تقدير العطف، فكأنه قال:"لا يكن منك دنوٌ فأكلٌ"، وكذلك الرفع، فاعرفه.