للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحرف. والمرادُ بالحرف جنسُ الحروف، لا حرفٌ مخصوصٌ على ما سيُذكر في موضعه. وتضمُّنُه معنى الحرف أن يُنوَى مع الكلمة حرفٌ مخصوصٌ، فيُفيد ذلك الاسمُ فائدةَ ذلك الحرف المنويِّ حتّى كأنّه موجود فيه، وكأنّ الاسمَ وعاءٌ لذلك الحرف. ولذلك قيل: تَضمَّن معناه، إذ كل شيء اشتمل على شيء، فقد صار متضمِّنًا له. ألا ترى أن "أَيْنَ"، و"كَيْفَ" يُفيدان الاستفهامَ، كما تفيده الهمزةُ في قولك: "أفي الدار زيدٌ"؟ و"نَزالِ"، "وتَراكِ"، ونحوهما من أسماء الأفعال بُنيا لأنهما وقعا موقعَ "انْزِلْ"، و"اتْرُكْ". فهذه أصولُ عِلَلِ البناء.

فقوله: و"سببُ بنائه مناسَبتُه ما لا تمكُنَ له بوجهٍ قريبٍ، أو بعيدٍ" يريد مناسبةَ الحرف، أو فعلِ الأمر، فإنّه لا تمكُّنَ لهما بوجهٍ، بخلاف الأسمَاء المبنيّة، فإنّ لها تمكُّنًا في الأصل. وبعضُها أقربُ إلى المتمكِّنة من بعضٍ. فأقربُها من المتمكِّنة ما كان مبنيًا على حركة، نحو: "يا زيدُ"، و"يا حَكَمُ". وأبعدُها منها ما كان مبنيًا على السكون، إذ الأسماء المتمكنةُ متحرِّكة متصرِّفةٌ، فأراد أنّها في البناء محمولةٌ على ما لا حظَّ له في التمكّن بوجه قريب، نحو الأسماء المبنيّة على حركة، ولا بوجه بعيد، نحو الأسماء المبنيّة على السكون، وما عدا ذلك فمحمولٌ عليها، أو راجعٌ إليها، نحو: "فَجارِ"، و"فَساقِ، فإنهما، وإن لم يكونا واقعَيْن موقعَ الفعل، فإنّهما مضارِعان لِما وقع موقعَه، وهو "نَزالِ"، و"تراكِ"، فبُنيا كبنائه، ونحو المنادَى في "يا زيدُ"، ونحوه ممّا هو مفردٌ، فإنّه، وإن لم يكن مشابِهًا للحرف، فهو واقعٌ موقعَ "أَنْتَ" من حيث كان مخاطبًا. وأسماء الخطاب مبنيّةٌ، وستُذكَر مستوفًى.

فأمّا "يومَئذٍ"، و"حينَئذٍ"، و"ساعتَئذٍ ففيه وجهان: البناء والإعرابُ. فالإعرابُ على الأصل، والبناء لأنّه ظرفٌ مبهمٌ أضيف إلى غير متمكِّن من الأسماء، فاكتسى منه البناء؛ لأنّ المضاف يكتسي من المضاف إليه كثيرًا من أحكامه، وقد أجروا "غيرًا"، و"مِثْلًا" مُجرى الظرف في ذلك؛ لإبهامهما، نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (١)، فإن "مثلًا" مبنيةٌ لإضافتها إلى غير متمكّن، وهو أمثل وُجوهها.

فأمّا قوله [من البسيط]:

لم يمنع الشِّرْبَ منها غيرَ أن نطقتْ ... إلخ

فالبيت لأبي قَيْسِ بن رِفاعةَ، وقيل: لرجلٍ من كِنانَةَ. والشاهدُ فيه أنّه بنى"غيرًا" على الفتح؛ لإضافتها إلى غير متمكّن، وإن كان في موضع رفع.

فإن قيل: فـ "أَنْ" والفعلُ في تأويلِ المصدر، وكذلك "أنَّ" المشدَّدةُ مع ما بعدها، والمصدرُ اسمٌ متمكّنٌ، فحينئذ "غَيْرٌ"، و"مثْلٌ" قد أضيفتا إلى متمكّنٍ، فلِمَ وجب البناء؟


(١) الذاريات: ٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>