الكوفيين (١) أن العامل فيه الرفع إنما هو تجرّده من النواصب والجوازم خاصّة، وهو أيضًا ضعيف لأمرَيْن:
أحدهما: أنه تعليل بالعلم المحض، وقد أفسدناه.
والثاني: أن ما قاله يقضىِ بأن أوّل أحوال الفعل المضارع النصبُ والجزمُ، والأمر بعكسه. وذهب الكسائيّ منهم أيضًا إلى أن العامل فيه الرفع ما في أوّله من الزوائد الأربع. قال: لأنه قبلها كان مبنيًّا، وبها صار مرفوعًا، فأُضيف العمل إليها ضرورة، إذ لا حادثَ سواها. وهو قول واهٍ أيضًا, لأنّ حرف المضارعة إذا دخل الفعلَ، صار من نفس الفعل كحرف من حروفه، وجزءُ الشيء لا يعمل في باقيه, لأنه يكون عاملاً في نفسه. ووجه ثان أن الناصب يدخل عليه، فينصبه، والجازم يجزمه، وحروف المضارعة موجودة فيه، فلو كانت هي العاملةَ الرفعَ؛ لم يجز أن يدخل عليها عاملٌ آخر، كما لم يدخل ناصبٌ على جازم، ولا جازمٌ على ناصب.
فإن قيل: فأنت قد تقول: "إنْ لم يفعل فلان كذا وكذا، فعلتُ كذا وكذا" فتُدْخِل حرف الشرط على "لم" وهىِ جازمة مثلُه، وغلب أحدهما على الآخر، فكذلك حرف المضارعة يعمل الرفع في الفعل، فإذا دخل عليه ناصب أو جازم؛ غلب فصار العمل له؟ فالجواب أن الفرق بينهما أن "إن" الشرطيّة بطل عملُها بعامل بعدها لقربه من المعمول، وفيما نحن فيه يبطل بعامل قبله، وكلاهما لفظي، فبان الفرق بينهما.
فإن قيل: فإذا قلتم: إنه يرتفع بوقوعه موقعَ الاسم، فما بالكم ترفعونه بوقوعه موقع مرفوع ومنصوب ومخفوض في قولك:"زيدٌ يضربُ"، و"ظننتُ زيدًا يضربُ"، و"مررت يزيد يضربُ"، وهلّا اختلف إعراب الفعل بحسب اختلاف إعراب الاسم الواقع موقعه؟ فالجواب أن عامل الرفع في الفعل إنما هو وقوعه بحيث يصح وقوع الاسم، وذلك شيء واحد لا يختلف؛ وأمّا اختلاف إعراب الاسم، فبحسب اختلاف عوامله، وعواملُ الاسم لا تأثير لها في الفعل، فلا يختلف إعراب الفعل باختلافها.
فإن قيل: ولِمَ كان وقوعه موقع الاسم يوجب له الرفع دون غيره من نصب أو جزم؟ قيل: من قبل أن وقوعه موقع الاسم ليس عاملًا لفظيًّا، فأشبه الابتداءَ الذي ليس بعامل لفظي، فعمل مثل عمله، فاعرفه.
(١) انظر المسألة الرابعة والسبعين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ٥٥٠ - ٥٥٥.