للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أن الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والعرض يكون جوابها مجزومًا، وعند النحويين أنّ جزمه بتقدير المجازاة، وأنّ جواب الأمر والأشياء التي ذكرناها معه هو جواب الشرط المحذوف في الحقيقة؛ لأنّ هذه الأشياء غير مفتقرة إلى الجواب، والكلامُ بها تامّ. ألا ترى أنك إذا أمرت، فإنّما تطلب من المأمور فعلاً؟ وكذلك النهي، وهذا لا يقتضي جوابًا, لأنك لا تريد وقوفَ وجود غيره على وجوده، ولكن متى أتيتَ بجواب، كان على هذا الطريق، فإذا قلت في الأمر: "إيتِني أكرمْك"، و"أحْسِنْ إلىّ أشكرْك"، فتقديره بعد قولك: "إيتني إن تأتني أكرمك"، كأنك ضَمِنْت الإكرامَ عند وجود الإتيان، ووعدت بإيجاد الإكرام عند وجود الإتيان، وليس ذلك ضَمانًا مطلقًا، ولا وَعدًا واجبًا إنما معناه: إن لم يُوجَد لم يجب، وهذه طريقة الشرط والجزاء.

والنهي قولك: "لا تَزُرْ زيدًا يُهِنْك" على تقديرِ: إن لا تزره يهنك، ولذلك قال النحويون: إِنه لا يجوز أن تقول: "لا تَدْنُ من الأسد يأكلْك"؛ لأنّ التقدير: "لا تدن من الأسد إن لا تدن من الأسد يأكلك"، وهذا محال؛ لأنّ تباعُده لا يكون سببًا لأكله؛ لأنه يُعاد لفظُ الأمر والنهي، ويُجْعَل شرطًا وجوابه ما ذكر بعد الأمر والنهي، وإذا قلنا: "أكرمْ زيدًا يكرمْك"، فالذي تضمره من الشرط "إن تكرم زيدًا". ولو قلت: "لا تدن من الأسد يأكلُك بالرفع"، جاز؛ لأن معناه: يأكلُك إن دنوت منه، وكذلك لو قلت: "لا تدن من الأسد فيأكلَك" بالفاء والنصب؛ لأنه يكون تقديره: "لا يكن دُنُوٌّ فأكلٌ".

والاستفهام: "أين بيتُك أزُرْك؟ " كأنه قال: "أين بيتك؟ إن أعْلَم مكانَ بيتك أزرْك"، وتقول: "أأتَيْتَنَا أمس نُعْطِك اليومَ؟ " معناه: أأتيتنا أمس؟ إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم. وإن كان قولك: "أأتيتنا أمس" تقريرًا، ولم يكن استفهامًا، لم يجز الجزم؛ لأنه إذا كان تقريرًا، فقد وقع الإتيان، وإنما الجزاء في غير الواجب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (١)، ولمّا انقضى ذكرُها، قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (٢) جزم؛ لأنه جوابُ "هَلْ".

وقال الزجّاج: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (٣) الآيةَ، فهو أمرٌ بلفظ الخبر، وليس جوابَ "هل"؛ لأنّ المغفرة لا تحصل بالدلالة على الإيمان, إنما تحصل بنفس الإيمان والجِهادِ، ويؤيّد ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: "آمِنوا بالله" مكانَ "تؤمنون".

والأظهرُ الوجه الأول، وهو أن يكون جوابَ "هل"؛ لأن "تؤمنون" إنّما هو تفسيرٌ للتجارة على معناها لا على لفظها، ولو فسّرها على لفظها، لقال: "أن تؤمنوا"؛ لأنّ "أن


(١) الصف: ١٠، ١١.
(٢) الصف:١٢.
(٣) الصف: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>