فإن قيل على الوجه الأول: هلا عُدل إلى "فِعُل" بكسر الأول وضمّ الثاني؛ لأنه أيضًا بناء لا نظيرَ له؟ قيل: كِلًا البناءين وإن كان لا نظيرَ له، إلّا أنّ الأول أوْلى؛ لأنه أخف عندهم؛ لأنّ الخروج من ضم إلى كسر أخف من الخروج من الكسر إلى الضمّ؛ لأنه إذا بُدِىء بالأخف وثُني بالأثقل، كانت الكُلْفة فيه أثقل من الابتداء بالأثقل، ثمّ يؤتى بالأخف، فلذلك بُني على هذه الصيغة، ألا ترى أنه لو فُتح ثانيه، أو سُكن، أو ضُم، لم يخرج عن الأمثلة التي تقع في الاستعمال؟
وأمّا قوله:"معدولاً عن صيغة فَعَلَ إلى فُعِل" إشارة إلى أن هذه الصيغة مُنْشأة ومركبة من باب الفاعل، وعليه الأكثر من النحويين.
ومنهم من يقول: إن هذا الباب أصل قائمٌ بنفسه، وليس معدولًا من غيره، واحتجّ بأن ثَم أفعالاً لم يُنْطَق بفاعليها، مثلَ:"جُن زيد"، و"حم بكرٌ". والمذهبُ الأوّل لقولهم:"بُويعَ زيدٌ"، و"سُويِرَ خالد" وموضعُ الدليل أنه قد عُلم أنه متى اجتمعت الواو والياء، وقد سبق الأول منهما بالسكون، فإن الواو تقلب ياء، ويدغم الأول في الثاني، نحوَ:"طَوَيْتُه طَيًا"، و"شَوَيتُه شَيًّا"، وههنا قد اجتمعتا على ما ترى، ومع ذلك لم تقلب وتدغم؛ لأنّ الواو مَدة منقلبة من ألفِ "سايَر" و"بايَعَ"، فكما لا يصح الادغام في "ساير"، و"بايع"، فكذلك لا يصحّ في "فُوعِلَ" منه مراعاة للأصل، وإيذانًا بأنه منه.
وأما إقامة المفعول مقام الفاعل في هذا الباب، فلأن لا يبقى الفعل حديثًا عن غير محدثٍ عنه، فإذا كان الفعل يتعدّي إلى مفعول واحد، نحوَ:"ضرب زيدٌ عمرًا"، حذفت الفاعل، وأقمت المفعول مقامه، فقلت:"ضُرب عمرو"، فصار المفعول يقوم مقام الفاعل، إذ كان الكلام يتم، وبقي بلا منصوب؛ لأنّ الذي كان منصوبًا قد ارتفع. وإن كان الفعل يتعدّي إلى مفعولَيْن، نحوَ:"أعطيت زيدًا درهمًا"، فرددته إلى ما لم يسم فاعله، قلت:"أُعطِيَ زيد درهمًا"، فقام أحد المفعولين مقام الفاعل، وبقي منصوبٌ واحدٌ تعدى إليه هذا الفعل, لأنّ الفعل إذا رفع فاعلاً في اللفظ، فجميعُ ما يتعلّق بالفعل سواه يكون منصوبًا، فلذلك نصبت "الدرهم" هنا، وصار منصوبًا بفعل المفعول، كما كان المفعولان منصوبين بفعل الفاعل.
وكذلك إن كان يتعدّي إلى ثلاثة مفعولين، نحوَ:"أعلم الله زيدًا عمرًا خيرَ الناس"، فإن لم يسم الفاعل، قلت:"أُعلم زيدٌ عمرا خيرَ الناس"، فقام أحد المفاعيل مقام الفاعل، وبقى معك مفعولان.
فهذا حكم الباب: إن كان الفعل يتعدّي إلى مفعول واحد، ورددته إلى ما لم يسم فاعله، صار من قبيل الأفعال اللازمة. وإن كان يتعدّي إلى مفعولَيْن، ورددته إلى ما لم يسمّ فاعله، صار من قبيلِ ما يتعدّي إلى مفعول واحد. وكذلك إن كان يتعدّي إلى ثلاثة،