للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: أما باب "أعطى"، و"كسا"، فقد تقدّم الكلام عليه في جواز السكوت على الفاعل؛ لأنها جملة من فعل وفاعلٍ يحصل للمخاطب منها فائدةٌ، وهو وجود الإعطاء والكسوة، إذ قد يجوز أن يوجَد منه ذلك. وأمّا أفعال القلوب، وهي باب "ظننت" وأخواتها، فقد اختلف النحويون في جواز السكوت على الفاعل. فامتنع قومٌ من جوازِ ذلك، وقالوا: لأنه لا فائدة فيه؛ لأنه قد عُلم أن العاقل لا يخلو من ظن أو علم. فإذا قلت: "ظننت"، أو"علمت"، لم يجز؛ لأنك أخبرتَه بما هو معلوم عنده. والوجهُ جوازُه؛ لأنك إذا قلت: "ظننت"، فقد أفدت المخاطب أنه ليس عندك يقين. وإذا قلت: "علمت"، فقد أخبرت أنه ليس عندك شك.

وكذلك سائرها، وهذا فيه من الفائدة ما لا خَفاءَ فيه، وعليه أكثر النحويين. قال الله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} (١)، فأتي بالمصدر المؤكد، وكأنّه قال: "وظننتم"؛ لأنّ التأكيد كالتكرير. ومن أمثال العرب "مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ"، ففي "يخل" ضمير فاعل، ولم يجىء بالمفعولَيْن، فعلى هذا تقول: "ظننت ظَنًا"، و"ظننت يومَ الجمعة"، و"ظننت خَلفَك". كل ذلك جائز، وإن لم تذكر المفعولين.

وأما قول العرب: "ظننت ذاك"، فإنما يعنون ذلك الظن، فيكون "ذا" إشارة إلى المصدر لدلالة الفعل عليه. وقد جاز أن تقول: "ظننت" من غير مفعولين. وإذا جئت بـ"ذاك" وأنت تعني المصدر؛ فإنمّا أكدت الفعل، ولم تأتِ بمفعول يُحْوِج إلى مفعول آخر، فـ "ظننت" ها هنا يعمل في "ذاك" عملَه في الظنّ، كما يعمل "ذهبت" في "الذهاب".

وتقول: "ظننت به" إذا جعلته موضعَ ظنك، كما تقول: "نزلت به"، و"نزلت عليه" مجراه ها هنا مجرى الظرف، فلا يحوج إلى ذكر مفعول آخر. فإن جعلت الباء زائدة، كان الضمير مفعولاً، ولم يكن بد من ذكر المفعول الثاني؛ لأنك ذكرت المفعول الأوّل، وصار التقدير: "ظننت زيدًا"، كما كان التقدير في "ألْقَى بيَده": ألْقَى يَدَه. والباءُ تزاد مع المفعول كثيرًا. قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (٢)، و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (٣). ولو لم تكن الباء زائدة، لَما جاز أن يكون الاسم معها فاعلًا في نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (٤). والتقدير: كفى الله. والذي يدل على زيادتها أنها إذا حذفت، يرتفع الاسم بفعل، نحوَ قول الشاعر [من الطويل]:

كَفَى الشيْبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيًا (٥)


(١) الفتح:١٢.
(٢) البقرة: ١٩٥.
(٣) العلق:١٤.
(٤) النساء: ٧٩، ١٦٦.
(٥) تقدم بالرقم ٣٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>