للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أنّ "لَيْسَ" فعلٌ يدخل على جملة ابتدائية، فينفيها في الحال، وذلك أنك إذا قلت: "زيد قائمٌ"، ففيه إيجاب قيامه في الحال، وإذا قلت: "ليس زيدٌ قائمًا"، فقد نفيت هذا المعنى.

فإن قيل: فمِن أيْنَ زعمتم أنها فعلٌ، وليس لها تصرّفُ الأفعال بالمضارع واسمِ الفاعل كما كان ذلك في "كانَ" وأخواتها، وإنما هي بمنزلةِ "ما" في دلالتها على نفي الحاضر؟ قيل: الدليل على أنها فعل اتصالُ الضمير الذي لا يكون إلّا في الأفعال بها، على حدّ اتصاله بالأفعال، وهو الضمير المرفوع، نحوُ قولك: "لستُ"، و"لسنا"، و"لستَ"، و"لستُما"، و"لستُمْ"، و"لستِ"، و"لستُنّ"، ولأن آخرها مفتوحٌ كما أواخر الأفعال الماضية. وتلحقها تاءُ التأنيث ساكنة وصلًا ووقفًا، نحوَ: "ليستْ هندٌ قائمة"، كما تقول: "كانت هندٌ قائمة". وليس كذلك التاء اللاحقة للأسماء، فإنها تكون متحرّكة بحركات الإعراب، نحوَ: "قائمةٍ"، و"قاعدةٍ"، فلمّا وُجد فيها ما لا يكون إلّا في الأفعال، دلّ على أنها فعلٌ.

فإن قيل: الأفعال بابُها التصرّف، و"لَيسَ" غير متصرّفة، فهلّا دَلَّكم ذلك على كونها حرفًا. قيل: عدمُ التصرّف لا يدلّ على أنها ليست فعلًا، إذ ليس كل الأفعال متصرّفة، ألا ترى أن "نِعْمَ"، و"بِئْسَ"، وَ"عَسَى"، وفعل التعجّب كلّها أفعالٌ، وإن لم تكن متصرّفة؟ وأمّا كونها بمنزلةِ "ما" في النفي، فلا يُخْرِجها أيضًا عن كونها فعلًا؛ لأنه يدلّ على مشابةٍ بينهما، وهو الذي أوجب جمودَها، وعدمَ تصرّفها، وأما أن يدلّ أنها حرفٌ، فلا، إذ الدلالة قد قامت على أنها فعلٌ. وممّا يدلّ أنها فعل وليست حرفًا، أنها تتحمّل الضميرَ كما أنّه يتحمّل الضمير، فتقول: "زيدٌ ليس قائمًا"، فيستكِنّ في "لَيْسَ" ضميرٌ من "زيد". ولا يكون مثلُ ذلك في "ما"، فلا يُقال: "زيدٌ ما قائمًا"، فيجعلَ في "ما" ضميرُ "زيد". وأيضًا فإنّ "لَيْسَ" لا يُبْطِل عملَها دخولُ "إلّا" في خبرها، فتقول: "ليس زيدٌ إلّا قائمًا"، ولا يكون مثلُ ذلك في "ما"، لا تقول: "ما زيدٌ إلّا قائمًا".

ومن المانع "لَيْسَ" من التصرّف أنك تقول: "كان زيدٌ"، فتفيد المُضيّ، وتقول: "يكون زيد"، فتفيد الاستقبالَ، وأنت إذا قلت: "ليس زيدٌ قائمًا الآنَ"، فقد أدّتْ "لَيْسَ" المعنى الذي يكون في المضارع بلفظ الماضي، واستُغني عن زيادةِ حرف مضارعة فيها.

وقوله: "لا تقول ليس زيد قائمًا غدًا"، يريد أنها لا تكون إلّا لنفي الحاضر لا غير، ولا يُنْفَى بها في المستقبل. وقد أجازه أبو العبّاس المبرّد وابن دُرُسْتَوَيْهِ.

فإن قيل: وزنُه "فَعْلَ" ساكنَ العين كـ"لَيْتَ"، وليس في الأفعال الماضية ما هو على هذه الزنة، فهلّا دَلَّكم ذلك على أنها حرف. قيل: لمّا مُنع التصرّف لِما ذكرناه، ولم يُبْنَ بناءَ الأفعال من بنات الياء، نحوِ: "باعَ"، و"سارَ"، مُنع ما للأفعال من الإعلال والتغيير؛ لأنّ الإعلال والتغيير ضربٌ من التصرّف.

<<  <  ج: ص:  >  >>