للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الراجي إنما يرجو في المستقبل لا في الماضي، فصارت كـ"لَيْسَ" في أنها بلفظ الماضي، ويُنْفَى بها الحال، فمُنعت لذلك من التصرّف كما منعت "لَيْسَ".

الثاني: أنها تَرَجٍّ، فشابهت "لَعَلّ". وقد استضعف بعضُهم هذا الوجهَ من التعليل، قال: وذلك أنّ شَبَه الحرف معنَى مُضعفٌ للاسم لا للفعل، ألا ترى أن أكثر الأسماء المبنيّة نحوَ "كَمْ"، و"مَنْ"، إنما كان يُشبه الحروفَ؛ فأمّا الفعل فإنّه، إذا أشبه بمعناه الحرفَ، فإنّه لا يُمْنَع التصرّفَ، وذلك لأَن معاني هذه الحروف مستفادة ومكتسَبة من الأفعال، ألا ترى أن "إلّا" في الاستثناء نائبةٌ عن "أستثنى"، والهمزة في الاستفهام نائبة عن "أستفهم" و"ما"، النافية نائبة عن "أنْفِي"؟ والشيءُ إنما يُعْطَى حكمًا بالشبه إذا أشبهه في معناه، وأمّا إذا أشبهه في معنَى هو له، أو يُساويه فيه، فلا. ولو جاز أن يُمْنَع التصرّفَ "عَسَى"؛ لأنها في معنَى "لَعَلَّ"، لجاز أن يمنع "استثنى" التصرّف لمشارَكةِ "إلّا"، ولجاز أن يمنع "أنْفِي" التصرّف لمشاركةِ "ما". وذلك قولُ من قال: إِنّ "لَيْسَ" ممنوعةُ التصرّف لمشاركةِ "ما" في معناها.

والآخر: أنها لمّا دلت على قُرْب الفعل الواقع في خبرها؛ جرت مجرى الحروف لدلالتها على معنى في غيرها، إذ الأفعال تدل على معنًى في نفسها، لا في غيرها، فجمدت لذلك جمودَ الحروف.

فإن قيل: ما الدليل على أنها أفعالٌ مع جمودها جمودَ الحروف، وعدمِ تصرّفها؟ فالجواب أنه يتصل بها ضمير الفاعل على حدّ اتصاله بالأفعال، نحوَ قولك: "عَسَيْتُ أن أفعلَ كذا"، و"عَسِيتُ" بالكسر أيضًا، وهما لغتان. قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيتُمْ} (١)، وقُرىء بالكسر، والمؤنّث "عَسَتْ"، فتؤنّثه بالتاء الساكنة وصلًا ووقفًا على ما يكون عليه الأفعالُ. ولمّا كانت فعلاً، افتقرت إلى فاعلٍ ضرورةَ انعقاد الكلام. وهي في ذلك على ضربين:

أحدهما: أن تكون بمنزلة "كان" الناقصة، فتفتقر إلى منصوب ومرفوع، ويكون معناها "قارَبَ".

والضرب الثاني: أن تكون بمنزلةِ "كان" التامّة، فتكتفي بمرفوع، ولا تفتقر إلى منصوب، وتكون بمعنى "قَرُبَ". فالأوّل نحو قولك: "عسى زيدٌ أن يقوم"، ولا يكون الخبر إلّا فعلاً مستقبلًا مشفوعًا بـ"أن" الناصبة للفعل. قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ} (٢) بِالْفَتحِ، فـ"زيدٌ" اسمُ "عسى"، وموضعُ "أنْ" مع الفعل نصبٌ؛ لأنه خبرٌ. والذي يدلّ على ذلك قولهم في المثل: "عسى الغُوَيْرُ أبْؤُسًا" (٣)، والمراد: أن يَبْأسَ، فقد


(١) محمَّد: ٢٢.
(٢) المائدة: ٥٢.
(٣) هذا مثل، وقد تقدم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>