للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تقوله إلّا لمَن هو على حدّ الفعل كالداخل فيه، لا زمانَ بينه وبين دخوله فيه. قال الله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (١). ومن كلام العرب: "كاد النعامُ يطير".

وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر حملًا لها على "كانَ"؛ لدخولها على المبتدأ والخبر وإفادةِ معناها في الخبر. واشترطوا أن يكون الخبر فعلاً؛ لأنهم أرادوا قربَ وقوع الفعل، فأتوا بلفظ الفعل ليكون أدلّ على الغرض، وجُرّد ذلك الفعل من "أن"؛ لأنهم أرادوا قرب وقوعه في الحال، وإن تَصرّف الكلام إلى الاستقبال، فلم يأتوا بها لتدافُع المعنيَين. ولمّا كان الخبر فعلاً محضًا مجرّدًا من "أنْ"، قدّروه باسم الفاعل, لأنّ الفعل يقع فى الخبر موقعَ اسم الفاعل، نحو: "زيدٌ يقوم"، والمراد. قائمٌ، ودل على أنه منصوب قول الشاعر [من الطويل]:

فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آئِبًا

كما دلّ قولهم: "عسى الغُوَيْرُ أبُؤُسًا" على أنّ موضعَ "أن يَبْأسَ" نصبٌ. فأما البيت، فهو لتأبّط شرًّا، ويروى: "ولم أكُ آئبًا"، فلا يكون فيه شاهدٌ. والرواية الأوُلى أقيسُ من جهة المعنى؛ لأنّ المراد: رجعت إلى فهم- وهي قبيلة- وكدتُ لا أؤُوبُ لمشارَفتي التَّلَفَ. قال ابن الأعرابىّ الرواية: ما كدت آئبًا، وروايةُ من روى: "ولم أكُ آئبًا" خطأ. وأرى أنها جائزةٌ، والمعنى: ولم أك في نظري واعتقادي أنّنى أسلمُ. وقصّته معروفة.

وأما قولهم في المثل: "عسى الغوير أبؤسًا"، قال الأصمعيّ: إنه كان غارٌ فيه ناسٌ، فانهارَ عليهم، أو أتاهم فيه عدوٌّ، فقتلوهم، فصار مثلًا لكلّ شيء يُخاف أن يأتي منه شرٌّ. قال ابن الكَلْبيّ: الغوير ماءٌ لكَلْب. وهذا المثلُ تَكلّمت به الزبّاءُ لمّا تَنكّب قَصِيرٌ اللَّخميُّ بالأجمال الطريقَ المَهْيَعَ، وأخذ على الغُوَيْر.

فإن قيل: فهلّا منعتم "كَادَ" من التصرّف كما فعلتم ذلك بـ"عسى"، إذ معناهما واحدٌ قيل: له جوابان:

أحدهما: أن "كَادَ" قد يُخبَر بها عن المقاربة فيما مضى وفيما يستقبل، نحوَ قولك: "كاد زيدٌ يقوم أمس"، و"يكاد يخرج غدًا". فلمّا أُريد بها معنى المُضيّ والاستقبال، أُتي لها بالأمثلة التي تدلّ على الأزمنة، وهو بناء الماضي والمضارع. ولمّا كانت "عَسَى" طمعًا، والطمع يختصّ بالمستقبل فقط، اختير له أخفُّ الأبنية، وهو مثال الماضي، ولم تكن حاجة إلى تكلُّف زيادة المضارع.

والجواب الثاني: أنهم قد غالوا في "عَسَى"، فاستعملوها موجبةً، ولم تأتِ في


(١) النور: ٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>