للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"أمرٌ أقعده عن الخروج"، و"مُهِمٌّ أشخصه عن مكانه". والمراد أن قعوده وشخوصه لم يكونا إلَّا لأمر، فساغ الكلام؛ لأنه في معنى النفي، والنكرةُ في تأويل الفاعل، فلذلك جاز الابتداء به.

وأمّا قوله: "إلَّا أن هذا النقل من كل فعل خلا ما استُثني منه"، فالغرضُ من ذلك أنّ نقل الفعل الثلاثي بالهمزة في غير التعجّب موقوف على السماع، غير مطرد في القياس، لأنه قد يكون بتشديد العين. ألا ترى أنك تقول: "عرف زيدٌ الأمرَ"، و"عرّفته إيّاه"، ولم يقولوا: "أعرفتُه". وقالوا: " غَرِمَ زيدٌ"، و"غرّمته"، ولم يقولوا: "أغرمته"، فلا يسوغ النقل بالهمزة إلَّا فيما استعملتْه العربُ، وهو في باب التعجّب قياسٌ مطردٌ بالهمزة في جميع الأفعال الثلاثيّة، إلَّا ما استُثني، وهو ما كان من الألوان والعيوب. والألوان، نحو: "سَمُرَ" من السُّمْرة، و"حَمِرَ"، من الحُمْرة، و"شَهُبَ"، من الشُّهْبة، و"سَوِدَ من السَّواد". والعيوبُ نحو: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ". كل ذلك لا يُنْقَل بالهمزة في التعجّب، ولا غيره، فلا تقول في شيء منها: "أفْعَلَ"، فلا يُقال: "ما أسمره"، ولا "ما أحمره" ونحوُهما من الألوان، ولا "ما أعوره" ولا "ما أحوله" ونحوهما من العيوب. والكوفيون (١) يجيزون التعجّب من البياض والسواد خاصّةً، ويحتجون بقول الشاعر [من الرجز]:

جارِيَةٌ في دِرْعها الفَضْفاضِ ... أبْيَضُ من أُخْتِ بني إباضِ (٢)

ووجهُ الاستدلال به أنه قال: "أبيض من أُخت بني إباض". و"أفعلُ من كذا"، و"ما اْفْعَلَهُ" مجراهما واحدٌ في أن لا يستعمل أحدُهما إلَّا حيث استُعمل الآخر. والجوابُ عنه أنه شاذّ معمول على فسادٍ للضرورة، فلا يجعل أصلًا يُقاس عليه مع أنه يحتمل أن تكون "أفعل" ها هنا التي مؤئثُها "فَعْلاءُ"، نحوَ: "حمراء"، و"أحمر". وليس الكلام في ذلك إنما الكلام في "أفعل" التي معناها التفضيل، وتكون مِنْ صفة متعلّقة بمحذوف وتقديرُه: "كائنةٌ من أُخت بني اْباض" كما قال [من الطويل]:

١٠٥٤ - [لَمَّا دَعَانِي السَّمْهَريُ أجَبْتُهُ] ... بأبْيَضَ مِن ماءِ الحديدِ صَقِيلِ


(١) انظر المسألة السادسة عشرة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" ص ١٤٨ - ١٥٥.
(٢) تقدم بالرقم ٩٢٢.
١٠٥٤ - التخريج: البيت بلا نسبة في خزانة الأدب ٥/ ١١٨.
اللغة: السمهري: الرمح الصلب، منسوب إلى سمهر زوج ردينة، وكانا مثقّفين للرماح، فتنسب الرماح الجيدة إليهما، فيقال: سمهري، ورديني. الصقيل: المجلو، اللامع المستوي.
المعنى: لما دعاه أحدهم برمحه الصلب إلى القتال، أجابه متحدّيًا بسيفه اللامع الأبيض الصقيل المصنوع من ماء الحديد. =

<<  <  ج: ص:  >  >>