للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جرى مجرى المثل, فلم يغير عن لفظ الواحد في قولك: "يا رجلان أكرم بزيد", و"يا رجال أكرم بزيد".

* * *

قال الشارح: اعلم أن هذا الفعل منقول من "أفْعَلَ" التي للصيرورة حين أرادوا المبالغة والمدح بذلك الفعل، من قولهم: "أنْحَزَ الرجل" إذا صار ذا مال فيها النُّحاز، و"أجْرَبَ" إذا كان ذا إبل فيها الجَرَب، و"أغَدَّ البعير" إذا صار ذا غُدَّةٍ. فكذلك لمّا أرادوا التعجّبَ من الكَرَم والحُسْن، نقلوه إلى "أكْرَمَ" و"أحسن"، ثمّ تَعجّبوا منه بصيغة الأمر، فقالوا: "أكْرِمْ"، و"أحْسِنْ". اللفظُ لفظ الأمر في قطع همزته وإسكانِ آخِره، ومعناه الخبر. فالنقلُ هنا نظير النقل في "ما أكرم زيدًا! " ألا ترى أنك ما عدّيتَه بالهمزة إلَّا بعد أن نقلتَه إلى "أفْعَلَ" التي معناها المبالغة؛ لأن التعجّب لا يكون إلَّا فيما قد ثبت واستقرّ حتى فاق أشكالَه، وخرج عن العادة، فلا يُقال لمن أنفق درهمًا: "ما أكرمه! " ولا لمن ضرب مرة: "ما أضربه! " إنما يُقال ذلك لمن قدُمَ تكرُّر الفعل منه حتى صار كالطبيعة والغريزة، وذلك قولك: "يا زيدُ أكْرِمْ بعمرو"، و"يا هندُ أكرم بعمرو"، و"يا رجلان أكرم بعمرو". وكذلك جماعةُ الرجال والنساء؟ قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (١)، والمعنى: ما أسْمَعَهم، وما أبْصَرَهُم، وحّدتَ لفظ الفعل، وذكرته، لأنك لست تأمر المخاطَبين الذين تُحدِّثهم، ولا تسألُهم أن يُكْرِموا أحدًا، إنما تُخْبِرهم أن عمرًا كريمٌ. وقولك: "يا زيدُ" إنما هو تنبية له على استماع كلامك وحديثِك. والفعلُ الذي هو "أكْرِمْ" ليس لزيد، فيتأنّثَ بتأنيثه، ويتذكرَ بتذكيره، ويُثنَّى له، ويُجمَعَ، وإنما هو لعمرو. والمجرورُ بالباء فموضعُه رفعٌ، والباء زائدة على حد زيادتها في {وَكَفَى بِاللهِ} (٢) والمراد: وكَفى الله، والذي يدلّ على ذلك أنك إذا أسقطت الباء، ارتفع الاسمُ. قال [من الطويل]:

كفى الشيبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيا (٣)

وإنّما قلنا: إن المجرور في "أحسنْ بزيد" هو الفاعل؛ لأنه لا فِعْلَ إلَّا بفاعلٍ، وليس معنى ما يصلح أن يكون فاعلًا إلَّا المجرورُ بالباء، وهو الذي قد كرم وحسن، فاللفظُ محتمِلٌ والمعنى عليه. ولزمت الباء هنا لتُؤْذِن بمعنى التعجّب بمخالَفة سائر الأخبار.

فإن قيل: فكيف صار الفاعل هنا المتعجَّب منه فاعلاً, وهو في قولك: "ما أكرم زيدًا" مفعول؟ فالجواب أن الفاعل هنا ليس شيئًا غير المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: "ما أحسن زيدًا"، فتقديره: شيءٌ حسّن زيدًا، وذلك الشيء ليس غير زيد؟ فإن الحسن لو


(١) مريم: ٣٨.
(٢) النساء: ٦، وغيرها كثير.
(٣) تقدم بالرقم ٣٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>