قال الشارح: قد تقدّم القول في "ما" هذه التي للتعجب، وأنّ مذهب سيبويه والخليل فيها أنها اسم تامّ غير موصول، ولا موصوف، وتقديرها: بشَيْءٍ، والمعنى فيها "شيءٌ حسّن زيدًا"، أي: جعله حسنًا، وهي في موضعِ مرفوع بالابتداء، و"أحْسَنَ" فعلٌ ماضٍ غير متصرّف، وفيه ضميرٌ يرجع إلى "ما"، وَ"زَيْدًا"، مفعول به، والجملةُ في موضع الخبر، كما تقول:"عبدُ الله أحسن زيدًا".
وأما الأخفش فإنه استبعد أن تكون اسمًا تامًّا غير استفهام، ولا جزاء، فاضطرب مذهبُه فيها، فقال -وهو المشهور من مذهبه- إنها اسم موصول بمعنى "الذي"، وما بعدها من قولك:"أحسن زيدًا" الصلة، والخبر محذوف، وتقديره: الذي أحسن زيدًا شيءٌ، وعليه جماعةٌ من الكوفيين. واحتجّ من يقول ذلك بقولهم:"حَسْبُك"، فهو اسم مبتدأٌ لم يؤتَ له بخبرٍ؛ لأن فيه معنى النَّهْي، فكانت "ما" كذلك.
وحكى ابن درستويه أن الأخفش كان يقول مرة:"ما" في التعجّب بمعنى "الذي"، إلَّا أنه لم يُؤْتَ لها بصلةٍ، ومرةَ يقول: هي الموصوفة، إلَّا أنه لم يؤت لها بصفة، وذلك لما أُريد فيها من الإبهام، والفعلُ بعدها وما اتصل به في موضع الخبر. وهذا قريبٌ من مذهب الجماعة.
وأما الأوّل فضعيف جدًا، وذلك لأُمورِ: منها أنه يعتقد أن الخبر محذوف، والخبرُ إنما ساغ حذفه إذا كان في اللفظ ما يدل عليه، ولا دليلَ ها هنا، فلا يسوغ الحذف. ومنها أنهم يقدّرون المحذوف بشَيْءٍ، والخبرُ ينبغي أن يكون فيه زيادةُ فائدة، وهذا لا فائدةَ فيه؛ لأنه معلومٌ أن الحُسْن ونحوه إنما يكون بشيء أوْجَبَهُ، فقد أُضمر ما هو معلوم، فلم يكن فيه فائدةٌ. الثالث أن باب التعجّب بابُ إبهام، والصلةُ مُوضحةٌ للموصول، ففيه نقضٌ لما اعتزموه في باب التعجّب من إرادة الإبهام.
وكان ابن درستويه يذهب في "ما" هذه إلى أنها التي يُستفهم بها في قولك: "ما تصنع؟ " و"ما عندك؟ " فهي بمنزلةِ "مَن" و"أي" في الإبهام. قال: وإنما وُضع هذا في التعجّب؛ لأجل أن التعجّب فيه إبهامٌ، وذلك أن التعجّب إنما يكون فيما جاوز الحدَّ المعروفَ، وخرج عن العادة، وصار كأنّه لا يُبْلَغ وَصْفه، ولا يُوقَف على كُنهه، فقولُك:"ما أحسن زيدًا! " في المعنى كقولك: "أيُّ رجل زيدٌ" إذا عنيتَ أنه رجلٌ عظيمٌ، أو جليلٌ ونحوَ ذلك. وهو مذهب الفرّاء من الكوفيين، إلَّا أن الفراء كان يذهب إلى أن "أفْعَلَ" بعدها اسمٌ حقُّه أن يكون مضافًا إلى ما بعده. والمذهبُ الأول، وما ذكره من أن "ما" استفهامٌ فبعيدٌ جدًا؛ لأن التعجّب خبرٌ محضٌ يحسن في جوابه صدقٌ أو كذبٌ، والمتكلّمُ لا يسأل المخاطب عن الشيء الذي جعله حسنًا، وإنما يُخْبره بأنه حسنٌ. ولو كانت "ما" استفهامًا، لم يسغ فيها صدقٌ أو كذبٌ؛ لأن الاستفهام ليس بخبرٍ، فاعرفه.