ولذلك ساغت فيها الإمالة. والذي يدل أن العمل لها دون الفعل المحذوف أنّ ما حُذف فيه الفعل إذا ظهر الفعل، لم يتغير المعنى، وأنت لو أظهرت "أدعو" و"أُنادي" لتغير المعنى، وصار خبرًا، والنداءُ ليس بخبر.
الأمر الثاني: أن العرب قد أوصلت حروف النداء إلى المنادَى تارة بأنفسها، وأُخْرَى بحرف الجرّ، وذلك نحوُ:"يا زيدُ"، و"يا لَزيدٍ"، و"يا بكرُ"، و"يا لَبكرٍ"، فجرى ذلك مجرى "جئتُ زيدًا"، و"جئت إليه"، و"سُمِّيت زيدًا"، و"سمّيت بزيدٍ". ويؤيد ذلك جوازُ الإمالة فيه كما جاز في "بَلى" و"لا". هو في "بَلى" أسهلُ لتمام اللفظ ومجيئها على عدّة الأسماء، وضُعْفِ "يا"، و"لا"، لنقص لفظهما.
فإن قيل: ولِمَ جيء بالحروف؟ وما كانت الحاجةُ إليها؟ فالجواب أن حروف المعاني جُمَعَ جيء بها نيابةً عن الجمل، ومفيدةً معناها من الإيجاز والاختصار. فحروفُ العطف جيء بها عوضًا عن "أعطِفُ"، وحروفُ الاستفهام جيء بها عوضًا عن "أستفهمُ"، وحروفُ النفي إنما جاءت عوضًا عن "أنفي"، وحروف الاستثناء جاءت عوضًا عن "أستثني" أو "لا أعني"، وكذلك لامُ التعريف ثابت عن "أُعَرِّفُ"، والتنوينُ ناب عن "خَفَّ"، وحروفُ الجز جاءت نائبة عن الأفعال التي هي بمعناها، فالباء ثابت عن "أُلصِقُ"، والكاف نابت عن " أُشَبِّهُ"، وكذلك سائر الحروف. ولذلك من المعنى لا يحسن حذف حروف المعاني كحروف الجرّ ونحوها؛ لأن الغرض منها الاختصار، واختصارُ المختصَر إجحافٌ.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الحروف نائبةً عن الأفعال على ما زعمتم، والأفعالُ معناها في نفسها، لِمَ كانت الحروف معناها في غيرها، والخَلَفُ لا يُخالِف الأصلَ في حقّ الحكم؟ فالجواب أن كلّ فعل متعدِّ بنفسه وبواسطةٍ، فإنّما هو عبارة ولفظٌ دالّ على فعلٍ واصلٍ إلى المفعول، فإذا قلت:"أدعو غلامَ زيد"، فـ "أدعو" ليس واصلًا بنفسه إلى غلام زيد، وإنّما هو دالّ على الدعاء الواصلِ إلى الغلام. فحروفُ "أدعو" عبارة عن حروف الدعاء، وليس كذلك قولك:"يا غلامَ زيد"، فإنّ إضافةَ "يا" إلى ما بعدها فُهم منها معنى الدعاء الدال عليه "أدعو"، فأنت إذا قلت:"يا غلام زيد"، فهو نفس الدعاء، وإذا قلت:"أدعو" كان إخبارًا عن وقوع الدعاء، وكذلك إذا قلت:"أستفهمُ"، كان عبارة عن طلب الفهم، وإذا قلت:"أقام زيدٌ؟ " كان نفس الطلب. فلمّا افترق معناهما، افترق حكمُهما، فافْهَمْه، ففيه لُطْفٌ.