للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الأوثان} (١)، ومزيدة في نحو: "ما جاءني من أحد" راجع إلى هذا. ولا تزاد عند سيبويه إلا في النفي، والأخفش يجوز الزيادة في الواجب, ويستشهد بقوله تعالي: {يغفر لكم من ذنوبكم} (٢).

* * *

قال الشارح: قد صدّر صاحب الكتاب كلامَه وابتدأه بـ "مِنْ"، وهي حريَّةٌ بالتقديم؛ لكثرة دَوْرها في الكلام، وسعةِ تصرُّفها ومعانيها، وإن تَعدّدت فمُتلاحِمةٌ، فمن ذلك كونها لابتداء الغاية مُناظِرةً لِـ "إلى" في دلالتها على انتهاء الغاية؛ لأن كل فاعلٍ أخذ في فعل فلفعله ابتداءٌ منه يأخذ، وانتهاءٌ إليه ينقطع، فالمبتدأُ تُباشِره "مِنْ"، والانتهاءُ تُباشِره "إلى"، والغالبُ على استعمالِ "مِنْ" في هذا المعنى، ولا تكون "مِنْ" عند سيبويه (٣) إلَّا في المكان، وأبو العبّاس المبرّد يجعلها ابتداءَ كلّ غاية، وإليه يذهب ابنُ درستويه، وغيره من البصريين، فتقول: "خرجتُ من الكوفة"، و"عجبتُ من فلان"، وفي الكتاب (٤): "مِن فلان إلى فلان". قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (٥) أي: من دار أهلك، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} (٦)، وقال: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (٧)، فـ "مِنْ" في "الشجرة" و"الشاطئ" لابتداء غاية النداء. وقد أجاز الكوفيون (٨) استعمالها في الزمان، وهو رأي أبي العبّاس المبرد، وابن درستويه من أصحابنا، كـ "مُذْ"، و"مُنْذُ"، واحتجّوا بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (٩)، وبقول الشاعر [من الكامل]:

لِمَنِ الدِيارُ بقُنّةِ الحِجْرِ ... أقْوَيْنَ مِن حِجَجٍ ومِن دَهْرِ (١٠)

ومن لا يرى استعمالها في الزمان يتأوّل الآية بأن ثَمّ مضافًا محذوفًا تقديره: من تأسيسِ أوّل يوم، ومِن مَز حجج ومرّ دهر. فهذا فيه دلالةٌ على استعمالها في غير المكان؛ لأن التأسيس والمرّ مصدران، وليسا بزمانَين، وإن كانت المصادرُ تُضارع الأزمنةَ من حيث هي منقضيةٌ مثلها.

وأما كونها للتبعيض، فنحوُ قولك: "أخذت درهمًا من المال" فدلّتْ "مِنْ" على أن الذي أخذتَ بعضَ المال، وفيه معنى الابتداء أيضًا؛ لأن مَبْدَأ أخذك المالُ. قال الله


(١) الحج:٣٠.
(٢) الأحقاف: ٣١، ونوح: ٤.
(٣) الكتاب ٤/ ٢٢٥.
(٤) الكتاب ٤/ ٢٢٥.
(٥) آل عمران: ١٢١.
(٦) مريم: ٥٢.
(٧) القصص: ٣٠.
(٨) انظر المسألة الرابعة والخمسين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ٣٧٠ - ٣٧٦.
(٩) التوبة: ١٠٨.
(١٠) تقدم بالرقم ٦٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>