للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بقولك: "ما جاءني أحد". فإذا أُدخل "مِنْ"، فإنما تُدْخِلها توكيدًا؛ لأن المعنى واحد. وإنّما يزاد "مِنْ"؛ لأن فيه تناوُلَ البعض، كأنّه ينفي كل بعض للجنس الذي نفاه مفردًا، كأنه قال: "ما جاءني زيدٌ، ولا بكرٌ، ولا غيرهما من أبعاض هذا الجنس"، فالنفيُ بـ "مِنْ" مفصَّلًا، وبغير"مِنْ "مُجْمَلًا".

فإذا قلت: "ما جاءني رجل" وأردت الاستغراق، ثمّ قلت: "ما جاءني من رجل"، كانت "مِنْ" زائدة. فأمّا إذا قلت "ما جاءني من أحد"، فـ "مِنْ" زائدة لا محالةَ للتأكيد، لأن "مِنْ" لم تفد الاستغراق، لأن ذلك كان حاصلًا من قولك: "ما جاءني أحدٌ". ولذلك لا يرى سيبويه زيادةَ "مِنْ" في الواجب، لا تقول: "جاءني من رجل كما لا تقول: "جاءني من أحد"؛ لأن استغراق الجنس في الواجب محال، إذ لا يُتصوّر مجيءُ جميع الناس، ويتصوّر ذلك في طرف النفي.

وقد أجاز الأخفش زيادتها في الواجب، فيقول: "جاءني من رجلٍ واحتجّ بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (١)، والمراد: ما أمسكن عليكم، وبقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (٢)، والمعنى: سيّآتِكم، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (٣). والجواب عمّا تَعلّق به، أمّا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (٤) فـ "مِنْ" هنا غير زائدة، بل هي للتبعيض، أي: كلوا منه اللحم دون الفَرْث والدَّمِ، فإنّه محرَّم عليكم؛ وأما قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (٥)، فإن "مِنْ" للتبعيض أيضًا, لأن الله عزّ وجلّ وعد على عمل ليس فيه التوبةُ، ولا اجتنابُ الكبائر تكفرَ بعض السيّآت، وعلى عمل فيه توبةٌ، واجتنابُ الكبائر تمحيصَ جميع السيّآت. يدل على ذلك قوله تعالى في الآية الأخُرى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (٦)، فجيء بـ "مِنْ" ها هنا، وفي قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (٧) لم يأتِ بـ "مِنْ"؛ لأنه سبحانه وعد باجتناب الكبائر تكفيرَ جميع السيّآت، ووعد بإخراج الصدقة على ما حَدَّ فيها تكفيرَ بعض السيّآت، فاعرفه.

وقول صاحب الكتاب: "وكونُها مُبغِّضةً ... وزائدةً ... راجعٌ إلى هذا

المعنى: إلى ابتداء الغاية، فإن ابتداء الغاية لا يُفارِقها في جميع ضروبها، فإذا قلت: "أخذتُ من الدراهم درهمًا"، فإنّك ابتدأت بالدرهم، ولم تَنْتَهِ إلى آخر الدراهم،


(١) المائدة: ٤.
(٢) البقرة: ٢٧١.
(٣) النساء:٣١.
(٤) المائدة: ٤.
(٥) البقرة: ٢٧١.
(٦) البقرة: ٢٧١.
(٧) النساء:٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>