للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يُعْدَل عن هذا الأصل إلَّا بدليل، وإذا قلت: "كِتابي إلى فلان"، فمعناه أنه غاية الكتابة، إذ لا مطلوبَ بعده، وليس هناك عملٌ يتّصل إلى فلان كما يتّصل عملُ السير والخروج وما أشبهه من النزول وغيره. ومنه قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (١)، وقوله: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} (٢)، وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (٣) و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (٤)، فالثمر غايةٌ للنظر، والأب غايةٌ للرجوع، والله تعالى غايةٌ لصعود الكلم ينتهي عنده، وليس في ذلك عملٌ يتّصل بالغاية.

فأمّا قولُ من جعلها بمعنى "مَعَ" وبمعنى غيرها من الحروف، فيحتجّ بقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (٥)، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (٦)، ويحمل عليه قولَه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (٧)، قالوا: لأنه لا يُقال: "نصرتُ إلى فلان"، بمعنى: "نصرتُه"، ولا "أكلتُ إلى مال فلان"، بمعنى: "أكلتُه"، وإنّما المعنى يعود إلى أن يكون بمعنى "مَعَ"، ولذلك دخلت "المرافق" في الغسل.

والتحقيقُ في ذلك أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخرَ، وكان أحدُهما يصل إلى معموله بحرفٍ، والآخرُ يصل بآخر؛ فإن العرب قد تتّسع، فتُوقِع أحدَ الحرفَيْن موقعَ صاحبه إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، وذلك كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (٨)، وأنت لا تقول: "رفثت إلى المرأة"، إنما يُقال: "رفثت بها"، لكنّه لمّا كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنتَ تُعدِّي "أفضيتُ" بـ "إلى"؛ جئت بـ "إلى" إيذانًا بأنه في معناه. وكذلك قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (٩)، لمّا كان معناه: مَن يُضاف في نَصْري إلى الله؛ جاز لذلك أن تأتي بـ "إلى" ها هنا. وكذلك قوله عزّ اسمُه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (١٠)، لمّا كان معنى الأكل ها هنا الضمّ والجمع لا حقيقة المَضْغ والبَلْع، عدّاه بـ "إلى"، إذ المعنى: لا تجمعوا أموالهم إلى أموالكم.

فأمّا قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} (١١)، فقد ذكرنا الوجه في دخول "المرافق" في الغسل. وفيه وجهٌ ثانٍ أنّ "إلى" هنا غايةٌ في الإسقاط، وذلك أنه لمّا قال: "اغسلوا وجوهكم وأيديكم"؛ تَناول جميعَ اليد، كما تناول جميع الوجه، واليَدُ اسمٌ للجارحة من رأس الأنامل إلى الإبْط، فلمّا قال: "إلى المرافق"؛ فصار إسقاطًا إلى المرافق، فالمرافق غايةٌ في الإسقاط، فلم تدخل في الإسقاط، وبقيتْ واجبةَ الغسل. ولو كانت "إلى"


(١) الأنعام: ٩٩.
(٢) يوسف: ٦٣.
(٣) الشورى: ٥٣.
(٤) فاطر:١٠.
(٥) آل عمران: ٥٢.
(٦) النساء:٢.
(٧) المائدة: ٦.
(٨) البقرة: ١٨٧.
(٩) آل عمران: ٥٢.
(١٠) النساء:٢.
(١١) المائدة: ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>