للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فناسَبَ هَمْسُها لِينَ حروف اللين. ولمّا كانت الواو بدلًا من الباء، والبدلُ ينحط عن درجة الأصل، فلذلك لا تدخل إلَّا على كلّ ظاهر، ولا تدخل على المضمر؛ لانحطاط الفرع عن درجة الأصل، لأنه من المرتبة الثانية. والتاءُ لمّا كانت بدلًا من الواو، وكانت من المرتبة الثالثة، انحطّت عن درجة الواو، فاختصّت باسم الله تعالى؛ لكثرة الحلف به. وإلى هذا يُشِير صاحب هذا الكتاب، وهو مذهب أكثر أصحابنا.

ومنهم من يقول: إِن البدل يجري مجرى المُبْدَل منه في جميع أحكامه، ولا يتقاصر عن الأصل لقُرْبه منه، ألا تراهم يقولون: "صرفتُ وُجُوهَ القوم، وأُجُوهَ القوم"، فيُبْدِلون الهمزة من الواو، ويوِقعونها في جميع مواقعها قبل البدل.

وقالوا أيضًا: "وُسادة، وإسادةٌ"، و"وِعاءٌ، وإعاءٌ". وقرأ سَعيد بن جُبَيْر، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} (١). فكلُّ واحد من هذا يجري في البدل مجرى صاحبه، ولا يلزم انحطاطُه عن درجة الأصل. فأمّا إذا كان بدلًا من بدلٍ؛ فقد تَباعد عن الأصل، وصار في المرتبة الثالثة، فوجب انحطاطُه عن درجة الأصل، وأن لا يُساويه. فلذلك اختصّت التاء باسم الله، ولم تدخل على غيره ممّا يُحْلَف به.

فإن قلت: فأنت تزعم أن الواو في "واللهِ" بدل من الباء في "بالله"؛ ولذلك لا تقع في جميع مواقعها. ألا ترى أنها لا تدخل على المضمر، ولا تقول: "وَهُ"، ولا "وَكَ"، كما تقول: "بك لأفعلنّ"، و"به لأفعلنّ"، فقد تَقاصر الفرع عن درجة الأصل كما ترى. فالجواب أن الواو لم يمتنع دخولُها على المضمر لانحطاطها عن درجة الباء، إنّما ذلك من قِبَلِ أن الإضمار يردّ الأشياء إلى أُصولها. ألا ترى أنّ من يقول: "أعطيتُكم درهمًا"، فحذف الواو، وسكّن الميم تخفيفًا، فإنّه إذا أضمر المفعول؛ قال: "أعطيتُكموه" ويردّ الواو لأجل اتّصال الفعل بالمضمر؟ فلذلك جاز أن تقول: "به لأفعلنّ"، و"بك لأفعلنّ"، ولم يجز شيء من ذلك في الواو.

وقد حكى أبو الحسن: "تَرَبِّ الكعبة لأفعلنّ"، يريدون: "وربّ الكعبة"، وهو قليل شاذّ، كأنهم جعلوا الواو أصلًا لكثرة استعمالها، وغَلَبَتها على الباء، فالتاءُ تدخل على طريق الاختصاص بالاسم الذي يكون القَسَمُ به أكثر، وقد يكون فيها معنى التعجّب. قال الله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (٢) على طريق التعجّب، وقال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (٣)، فاعرف ذلك.

* * *


(١) يوسف: ٧٦. وانظر: البحر المحيط ٥/ ٣٣٢؛ والكشاف ٢/ ٣٣٥؛ ومعجم القراءات القرآنية ٣/ ١٨٤.
(٢) يوسف:٨٥.
(٣) الأنبياء: ٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>