للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجرّ، وإلى الثاني به. والمُقدَّم في الرتبة هو المنصوب بغير حرف جرّ، فإن قدّمت المجرور؛ فلضربٍ من العناية للبيان، والنيّةُ به التأخير. قال الشاعر [من البسيط]:

أمرتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ

والمراد: "بالخير"، فحذف حرف الجرّ. وقال الآخر [من البسيط]:

أسْتَغْفِرُ الله ذَنْبًا لستُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبادِ إليه الوَجْهُ في العَمَل (١)

والمراد: "من ذنبٍ"، وهو في البيت الأوّل أسهل منه ها هنا؛ لأن "الخَيْر" مصدرٌ، والمصدر مقدّرٌ بـ "أنْ" والفعلِ، وحرفُ الجرّ يحذف كثيرًا مع "أنْ"، فساغ مع ما كان مقدّرًا به. وأمّا قوله [من الطويل]:

ومِنّا الذي اخْتِيرَ الرجالَ سَماحةً ... وَجُودًا إذا هَبَّ الرِّياحُ الزَّعازعُ (٢)

فالبيت للفرزدق، والشاهد فيه حذف "مِنْ"، والمراد: "من الرجال"، فحُذف،

وعُدّي الفعل بنفسه. وفي تقديم المفعول على المجرور بـ "مِنْ" دلالةٌ على أنّه مفعول ثان، وليس ببدلٍ، إذ البدل لا يسوغ تقديمه. يصف قومه بالجود والكرم عند اشتداد الزمان وهبوبِ الرياح، وهي الزعازع. وإنّما أراد زمن الشتاءِ؛ لأنه مَظِنَّةُ الجَدْب.

وهذا الحذف، وإن كان ليس بقياس، لكن لا بدّ من قَبُوله؛ لأنّك إنما تنطق بلغتهم، وتَحْتَذِي في جميعِ ذلك أمثلتَهم، ولا تَقيس عليه، فلا تقول في "مررت بزيد": "مررت زيدًا"، على أنّه قد حكى ابن الأعرابيّ عنهم: "مررت زيدًا"، وهو شاذّ. ومن ذلك: "دخلت الدارَ"، فالمراد: "في الدار"؛ لأنه فعلٌ لازمٌ، وقد تقدّم الكلام عليه قبلُ.

وقد كثُر حذفها مع "أن" الناصبة للفعل، و"أنَّ" المشدّدة الناصبةِ للاسم، نحوَ: "أنا راغبٌ في أنْ ألقاك"، ولو قلت: "أن ألقاك" من غير حرف جرّ؛ جاز. وكذلك تقول في المشدّدة: "أنا حريصٌ في أنّك تُحْسِنُ إليّ" ولو قلت: "أنّك تحسن إليّ" من غير حرف جرّ؛ جاز. ولو صرّحت بالمصدر، فقلت: "أنا راغبٌ في لِقائك، وحريصٌ في إحسانك إليّ"، لم يجز حذفُ حرف الجرّ، كما جاز مع "أنْ"، و"أنَّ"؛ لأنّ "أن" وما بعدها من الفعل، وما يتعلّق به، والاسم والخبر ومتعلّقاته بمعنى المصدر، فطال، فجوّزوا معه حذف حرف الجرّ تخفيفًا، كما حذفوا الضمير المنصوب من الصلة، نحوَ قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (٣)، ولم يُجوِّزوا مع المصدر المحض، فاعرفه.


(١) تقدم بالرقم ٩٩٧.
(٢) تقدم بالرقم ٨٢٤.
(٣) الفرقان: ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>