للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: قد تقدّم أن "أنّ" المفتوحة معمولةٌ لِما قبلها، وأنّ معناها التأكيد والتحقيق، مجراها في ذلك مجرى المكسورة، فيجب لذلك أن يكون الفعل الذي تُبْنَى عليه مطابقًا لها في المعنى بأن يكون من أفعال العلم واليقين ونحوِهما، ممّا معناه الثبوت والاستقرار؛ ليَطابَق معنيا العامل والمعمول، ولا يتناقضا.

وحكمُ المخفّفة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة؛ لأن الحذف إنما كان لضرب من التخفيف، فهي لذلك فهي حكم المثقّلة، فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلَّا ما يدخل على المثقّلة، فتقول: "تيقّنتُ أنْ لا تفعلُ ذاك"، كأنّك قلت: "أنَّك لا تفعل ذاك". قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (١)، وقال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (٢)، وقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (٣)، وهو من رؤية القلب بمعنى العلم، فـ "أَنْ" ههنا المخفّفة من الثقيلة، واسمها منويٌّ معها. ولا يقع قبلها شيء من أفعال الطَّمَع والإشفاق، نحوِ: "اشتهيتُ"، و"أردتُ"، و"أخافُ"؛ لأنّ هذه الأفعال يجوز فيها أن يوجَد ما بعدها وأن لا يوجد، فلذلك لا يقع بعدها إلَّا "أن" الخفيفة الناصبة للأفعال، لأنَّه لا تأكيد فيها ولا مضارَعةَ لِما فيه تأكيدٌ، فتقول: "أرجُو أنْ تًحْسِنَ إليّ، وأخافُ أنْ تُسيءَ إليّ". قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} (٤)، فهذا كلّه منصوب لا يجوز رفعه، وإذا قلت: "علمت أنْ سيَقُومُ"، فإنّه مرفوع لا يجوز نصبه؛ لأنّ ذلك ليس من مواضع الشكّ.

ومن الأفعال ما قد يقع بعدها "أن" المشدّدة والمخفّفة منها بمعناها، ويقع بعدها أيضًا الخفيفة الناصبة للأفعال المستقبلة، وهي أفعال الظنّ والمَحْسَبة، نحوُ: "ظننت"، و"حسبت"، و"خِلْت"، فهذه الأفعال أصلها الظنّ. ومعنى الظنّ أن يتعارض دليلان، ويترجّح أحدُهما على الآخر، وقد يقوى المُرْجَحُ فيستعمل بمعنى العلم واليقين، نحوَ قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (٥). وربما ضعُف، فصار ما بعدها مشكوكًا في وجوده، يحتمل أن لا يكون كأفعال الخوف والرجاء، فعلى هذا تقول إذا أُريد العلم: "ظننت أنّ زيدًا قائمٌ"، و"أظنُّ أنْ سيقومُ زيدٌ". قال الله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (٦)، وقال: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (٧)، والمراد بالظنّ هنا العلم؛ لأنه وَقْتُ رفعِ الشُّكوك. وقد قرئ: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (٨) رفعًا ونصبًا (٩)؛ فالرفع على أن


(١) المزمل: ٢٠.
(٢) النور: ٢٥.
(٣) طه: ٨٩.
(٤) الشعراء: ٨٢.
(٥) البقرة: ٤٦.
(٦) الكهف: ٥٣.
(٧) القيامة: ٢٥.
(٨) المائدة: ٧١.
(٩) قراءة الفتح هي قراءة الجمهور المثبتة في النصّ المصحفي، وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وغيرهم بالضمّ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>