للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأتيت بـ "بَل" مُضْرِبًا عن زيد، ومُثْبِتًا ذلك الحكم لعمرو. قال أبو العباس محمّد بن يزيد المبرد: إذا قلت: "ما رأيتُ زيدًا بل عمرًا"، فالتقدير: بل ما رأيت عمرًا، لأنك أضربت عن موجب إلى موجب. وكذلك تُضْرِب عن منفيّ إلى منفيّ.

وتحقيقُ ذلك أن الإضراب تارةً يكون عن المُحدَّث عنه، فتأتى بعد "بَلْ" بمحدّث عنه، نحوَ: "ضربتُ زيدًا بل عمرًا"، و"ما ضربت زيدًا بل عمرًا"، وتارةً عن الحديث، فتأتي بعد "بَلْ" بالحديث المقصود إليه، نحوَ: "ضربت زيدًا بل أكرمتُه"، كأنّك أردت أن تقول: "أكرمت زيدًا"، فسبق لسانُك إلى "ضربت"، فأضربتَ عنه إلى المقصود، وهو "أكرمته". وتارةً تُضْرِب عن الجميع، وتأتي بعد "بَل" بالمقصود من الحديث، والمُحدَّث عنه، وذلك نحوُ: "ضربتُ زيدًا بل أكرمتُ خالدًا"، كأنك أردت من الأول أن تقول: "أكرمت خالدًا"، فسبق لسانك إلى غيره، فأضربت عنه بـ "بَل"، وأتيتَ بعدها بالمقصود.

هذا هو القياس. وقولُ النحويين: إنك تُضرِب بعد النفي إلى الإيجاب، فإنما ذلك بالحمل على "لكِنْ"، لا على ما تقتضيه حقيقةُ اللفظ، ومن قال من النحويين أن "بَل" يُستدرك بها بعد النفي كـ "لكِنْ"، واقتصر على ذلك، فالاستعمال يشهد بخلافه.

واعلم أن الإضراب له معنيان: أحدهما إبطالُ الأول والرجوع عنه، إما لغلطٍ أو نِسْيانٍ على ما ذكرنا، والآخر: إبطالُه لانتهاءِ مدّةِ ذلك الحكم، وعلى ذلك يأتي في الكتاب العزيزنحوَ قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (١)، ثم قال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (٢) كأنّه انتهتْ هذه القصةُ الأوُلى، فأخذ في قصة أُخرى، ولم يُرِد أن الأول لم يكن. وكذلك قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (٣)، وهو كثير في القرآن والشعر. وذلك أن الشاعر إذا استعمل "بَل" في شعر، نحوِ قوله [من الرجز]:

بَل جَوزِ تَيْهاءَ كظَهْرِ الحَجَفتْ (٤)

ونحو [من الرجز]:

١١٤٠ - بَلْ بَلَدٍ مِلْءِ الفِجاجِ قتمُهْ


(١) الشعراء: ١٦٥.
(٢) الشعراء: ١١٦.
(٣) يوسف: ١٨، ٨٣.
(٤) تقدم بالرقم ٣٤٤.
١١٤٠ - التخريج: الوجز لرؤبة في ديوانه ص ١٥٠؛ والدرر ١/ ١١٤، ٤/ ١٩٤؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٧٦، ٤٣١، ٤٤٠؛ وشرح شواهد المغني ١/ ٣٤٧؛ ولسان العرب ١١/ ٦٥٤ (ندل)، ١٢/ ١١١ (جهرم)؛ والمقاصد النحوية ٣/ ٣٣٥؛ وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٥٢٩؛ ورصف المبانى ص ١٥٦؛ وشرح ابن عقيل ص ٣٧٣؛ وشرح عمدة الحافظ ص ٢٧٣؛ وهمع الهوامع ٢/ ٣٦. =

<<  <  ج: ص:  >  >>