فمنطلقٌ", فكأنك قلت: "مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ"، ألا يرى أن الفاء لازمة لها؟
* * *
قال الشارح: قد تقدّم القول في "أمَّا" المفتوحةِ الهمزة أنّها للتفصيل، وإذا ادّعى مُدَّعٍ أشياءَ في شخصٍ، نحوَ أن يُقال: "زيدٌ عالمٌ شجاعٌ كريمٌ"، وأردتَ تفصيلَ ما ادّعاه؛ فإنّك تقول في جوابه: "أمّا عالمٌ شجاعٌ فمُسلَّمٌ، وأمّا كريمٌ ففيه نَظَرٌ".
وفيها معنى الشرط، يدل على ذلك دخولُ الفاء في جوابها. وذلك أنّك إذا قلت: "أمّا زيدٌ فمنطلقٌ"، معناه: مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ، وأصلُ هذه الفاء أن تدخل على مبتدأ، كما تكون في الجزاء كذلك من نحو قولك: "إن تُحْسِنْ إليّ فالله يجازيك". وإنمّا أُخرت إلى الخبر مع "أمَّا" لضرب من إصلاح اللفظ. وذلك أن "أمّا" فيها معنى الشرط، وأداةُ الشرط يقع بعدها فعلُ الشرط، ثُمّ الجزاءُ بعده، فلمّا حُذف فعل الشرط هنا وأداته، وتضمّنت "أمّا" معناهما، كرهوا أن يليها الجزاءُ من غيرِ واسطة بينهما، فقدّموا أحد جُزئي الجواب، وجعلوه كالعوض من فعل الشرط.
ووجهٌ ثان وهو أن الفاء، وإن كانت هنا مُتْبِعة عْيرَ عاطفة، فإنّ أصلها العطفُ ألا ترى أن العاطفة لا تنفكُ من معنى الإتباع، نحو: "جاءني زيدٌ فمحمّدٌ"، و"رأيت زيدًا فصالحًا".
ومن عادة هذه الفاء - مُتْبعةٌ كانت أو عاطفة - أن لا تقع مبتدأةً في أوّل الكلام، وأنّه لا بدّ أن يقع قبلها اسمٌ أو فعلٌ، فلو قالوا: "أمّا فزيدٌ منطلقٌ"، كما يقولون: "مهما وقع من شيء فزيدٌ منطلقٌ"، لَوقعت الفاء أوّلاً مبتدأة، وليس قبلها اسمٌ ولا فعلٌ، إنّما قبلها حرفٌ، وهو "أمَّا" فقدّموا أحد الاسمين بعد الفاء مع "أمَّا" لِما حاوَلوه من إصلاح اللفظ، لِيقع قبلها اسمٌ في اللفظ، فيكون الاسم الثاني الذي بعده، وهو خبرُ المبتدأ، تابعًا للاسم قبله، وإن لم يكن معطوفًا عليه. فعلى هذا أجازوا: "أمّا زيدًا فأنا ضاربٌ"، فنصبوا زيدًا بـ "ضاربٌ"، وإن كان ما بعد الفاء ليس من شأنه أن يعمل فيما قبله، لكنّه جاز هنا من حيث كانت الفاء في نية التقديم على جميعِ ما قبلها.
وغالَى أبو العبّاس فأجاز "أمّا زيدًا فإنّي ضاربٌ"، على أن يكون "زيدًا" منصوبًا بـ "ضارب". وفيه بُعْدٌ؛ لأن "إنَّ" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
ربما حذفوا الفاء من جواب "أمّا" كما يحذفونها من جواب الشرط المحض، وهو من قبيل الضرورة. قال الشاعر، أَنشده سيبويه [من الطويل]:
فأمّا القِتالُ لا قِتالَ لَدَيكُمُو ... ولكِن سَيرًا في عِراض المَواكِبِ (١)