للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ هذه النون لا تدخل إلَّا على مستقبلٍ فيه معنى الطلب؛ لتأكيده وتحقيقِ أمر وجوده. والماضي والحالُ موجودان حاصلان، فلا معنى لطلب حصولِ ما هو حاصلٌ. وإذا امتنع الطلبُ فيه، امتنع تأكيده، فلذلك لا تقول: "لآكُلَنَ"، ولا "لا تأكلنَّ"، ولا "واللهِ لآكلنّ"، وهو في حال الأكل. فهذا امتنع من الحال كان امتناعُه من الماضي أوّلى، ولا تدخل أيضًا على خبر لا طلبَ فيه. فأمّا قولهم. "إمَّا تَفعَلَنَّ أفعَل"، وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (١)، وقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} (٢)، فإنّما دخلت النونُ حين دخلت "ما"، و"ما" مُشبَّهةٌ باللام في "لَتفعلنّ". ووجهُ الشبَه بينهما أنّها حرفٌ للتأكيد.

وقد اختلفوا في النون مع "إمَّا" هذه: هل تقع لازمةً أو لا؟ فذهب المبرّد إلى أنّها لازمةٌ، ولا تُحذف إلَّا في الشعر تشبيهًا بالأمر والنهي، وذهب أبو عليّ وجماعةٌ من المتقدّمين إلى أنّها لا تلزم. قال: وإذا كانت مع اللام في "لَتفعلنّ" غيرَ لازمة، فهي ههنا أوْلى. وأنشد أبو زيد [من الكامل]:

رْعمتْ تُماضِرُ أنّني إمَّا أمُت ... يَسْدُد أُبَينُوها الأصاغِرُ خَلّتي (٣)

وقال الأعشى [من المتقارب]:

فإمَّا تَرَيني وَلِي لِمَّة ... فإنّ الحَوادِثَ أوْدَى بها (٤)

فالشاهد فيه كثيرٌ، ومثلُ "إمّا تفعلنّ" "حَيثُمَا تفعلنّ" المعنى واحدٌ، وقد دخلت هذه النون في الخبر وإن لم يكن فيه طلبٌ، وهو قليل. قالوا: "بجهد ما تبلغنّ"، و"بعين ما أرينّك" (٥). شبّهوا دخولَ "ما" في هذه الأشياء بدخولها في الجزاء، وجعلوا كونَه لا يبلُغ إلَّا بجهد بمنزلة غير الواجب الذي لا يبلغ، وقوله: "بعين ما أرينّك"، أي: أتَحَقَّقُ ذلك، ولا شكّ فيه، فهو توكيدٌ. ودخلت "ما" لأجل التوكيد، وشُبّهت باللام في "لَيفعلنّ"، فأمّا قول الشاعر [من المديد]:

ربّما أوفيت ... إلخ

البيت لجَذِيمة الأبرش، وربّما وقع في بعض النسخ لعمرو بن هند. والذي حسّن دخولّ النون زيادةُ "ما" مع "رُبَّ" و"ترفعنْ" من جملتها. وصف أنّه يحفظ أصحابَه في رأسِ جبل إذا خافوا من عدوّ، فيكون طَلِيعةً لهم. والعربُ تفخر بهذا؛ لأنّه يدلّ على شَهامة، والعَلَمُ: الجبلُ. والشَّمالاتُ: جمع شَمالٍ من الرياح، وخصّها بذلك لأنّها تهبّ بشدّة في أكثر أحوالها، وجعلها ترفع ثوبَه لإشراف المَرقَبَة التي يَرْبَأ فيها.


(١) مريم: ٢٦.
(٢) الزخرف: ٤١.
(٣) تقدم بالرقم ١١٧٧.
(٤) تقدم بالرقم ٧٩٩.
(٥) هذا القول من أمثال العرب، وقد تقدم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>