الرُّباعيّ على "مُفْعِل"، نحو: أَخْرَجَ فهو مُخْرِجٌ، وأكرم فهو مُكرِمٌ، ومن "فَاعَلَ" على "مُفاعِلٍ"، نحوَ: ضَارَبَ فهو مُضارِبٌ، وقاتَلَ فهو مُقاتِل، فلمّا اختلفت المصادرُ كاختلاف أسماء الأجناس، نحو:"رَجُل" و"فَرَسٍ" و"غُلَامٍ"، ولم تكن على منهاج واحد كأسماء الفاعلين، والمفعولين دلّ على أنّها الأصل.
وممّا يدلّ على أن المصادر أصلٌ وأنّ الأفعال مشتقةٌ منها أنّ الفعل يدلّ على الحَدَث والزمان، ولو كانت المصادر مشتقَّةً من الأفعال، لَدَلَّتْ على ما في الأفعال من الحدث والزمان، وعلى معنى ثالثٍ كما دلّت أسماءُ الفاعلين والمفعولين على الحدث وذاتِ الفاعل والمفعول، وكذلك كلُّ مشتقّ يكون فيه الأصلُ وزيادةُ المعنى الذي اشتُقّ له، فلمّا لم تكن المصادرُ كذلك، عُلم أنها ليست مشتقّة من الأفعال، وذهب الكوفيون (١) إلى أنّ الأفعال هي الأصلُ، والمصادر مشتقّةٌ منها، واحتجّوا في ذلك بأنّ المصادر تعتلّ باعتلال الأفعال وتصِحّ بصحّتها، ألا ترى أنّك تقول:"قام قيامًا"، فيعتل المصدرُ اعتلال ألفه باعتلال عين الفعل تقلبها ألفًا، وتقول:"لَاوَذَ لِواذًا" فيصحّ المصدرُ وإن كان على زِنته لصحة فِعْله، وهو "لَاوَذَ". وقالوا أيضًا: رأينا الفعلَ عاملًا في المصدر، ورتبةُ العامل أن يكون قبل المعمول، ومقدَّمًا عليه.
وهذا الذي ذكروه لا حجّة لهم فيه؛ أمّا قولهم إنّه يعتلّ باعتلالِ الفعل، ويصحّ بصحّته فلا يدل على أنّ المصدر فرعٌ، لأنّه يجوز أن يعتلّ الفرعُ باعتلالِ الأصل لما بينهما من الملابَسة طَلَبًا للتشاكُل، ولا يدل على أنّه أصلٌ، ألا ترى أنّ بعض الأفعال قد تعتل باعتلالِ الآخر، ولا يدلّ ذلك على أن بعضها أصلٌ لبعض؟ ألا ترى أنّك قلت:"أَقَامَ "، و"أقَالَ"، فأعللتَهما بقلبِ عينهما ألفا بالحمل على "قَامَ" و"قَال" حين اعتلّا لتَجْرِيَ الأفعال على سنن واحد ومنهاح واحد في الاعتلال والصحّةِ؟ وكذلك قالوا:"أَغْزَيْتُ"، و"ادَّعَيْتُ"، فقلبوا الواو ياءً حملًا على "يُغزِي" و"يَدَّعِي"، فقد رأيتَ كيف اعتلّ كل واحد من الأفعال لاعتلال الآخر، ولا يدلّ على أنّ بعضها فرعٌ على بعض. وأمّا قولهم: إِنَّ الأفعال تكون عاملة في المصادر، فنقول يجوز أن تكون عاملة فيها، ولا تكون أصلًا لها، وذلك لأنّا قد أجمعنا على أنّ الأفعال والحروف عاملةٌ في الأسماء، ولم يقل أحدٌ: إِنها أصلٌ لها. كذلك ههنا.
وأمّا قوله: وينقسم إلى مُبْهَم، نحو:"ضربتُ ضَرْبًا"، وإلى موقَّت، نحو:"ضربتُ ضَرْبَةً وضربتَيْن"، فالمعنى به أنّ المصدر يُذْكَر لتأكيد الفعل، نحو:"قُمْتُ قِيامًا"، و"جلستُ جُلُوسًا"، فليس في ذكر هذه المصادر زيادة على ما دل عليه الفعلُ أكثرُ من أنك أكدت فعلَك. ألا ترى أنّك إذا قلت:"ضربتُ" دلّ على جنسِ الضرب مُبْهَمًا من
(١) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ص ٢٣٥ - ٢٤٥.